أولى

العدوان التركيّ على العرب يتوسّع! والعرب…؟

العميد د. أمين محمد حطيط*

سيطرت الدولة العثمانية لأربعة قرون على معظم المنطقة التي يتشكل منها العالم العربي اليوم، ولم ينحسر النفوذ العثماني عنها إلا بالتدخل الأوروبي الذي أسقط هذا النفوذ على مرحلتين الأولى بإخراجه من شمالي أفريقيا حيث احتلّ الأوروبيون تلك البلدان مع بداية القرن التاسع عشر احتلالاً امتدّ من ليبيا إلى المغرب شاملاً تونس والجزائر، والثاني عبر إسقاط الدولة العثمانية برمّتها وإخراجها من المشرق العربي بعد الحرب العالميّة الأولى في مطلع القرن العشرين وإعادة تركيا إلى أقرب ما يكون إلى حدودها الطبيعية إلا ما سلخ من دول الجوار من مناطق ألحقت بها في ظلّ تواطؤ غربي وعدم اقتدار عربي، كما حلّ بلواء اسكندرون السوري الذي اغتصبته تركيا التي أسّسها مصطفى كمال أتاتورك على أساس علماني وجعلها ترث الدولة العثمانيّة المنهارة التي كانت قائمة على أساس إسلاميّ مدّعى ويحكمها سلطان يعدّ نفسه خليفة للمسلمين.

تنكرت دولة أتاتورك للجوار العربي واتجهت إلى الغرب بعد أن جاهرت بسعيها لأخذ كلّ شيء منه بدءاً بالحرف الذي جعلته يحلّ محلّ الحرف العربي في كتابة اللغة التركية وصولاً إلى اعتماد العلمانية والعمل بالديمقراطية الغربية والاقتصاد الليبرالي. ثم وبعد الحرب الثانية أضحت تركيا عضواً في الحلف الأطلسي المنظومة العسكريّة التي أنشأها الغرب للدفاع عن النفس في وجه الشيوعية. وبعد إنشاء «إسرائيل» التي اغتصبت فلسطين، برزت تركيا كحليف استراتيجيّ أساسيّ لها ولا يمكن ان ننسى «تفضل» سلاطين بني عثمان خاصة عبد الحميد على اليهود ومنحهم التسهيلات منذ العام 1830 وحتى سقوط الدولة العثمانية في العام 1918 من أجل التمهيد لإقامة دولة لهم في فلسطين. فسهّلوا لهم شراء الأرض والهجرة إليها وإقامة المعسكرات او القرى العسكرية «كيبوتس» التي تحوّلت لاحقاً إلى نقاط ارتكاز رئيسية للقتال وشنّ الحرب التي أفضت إلى السيطرة على كثير من أراضي العرب.

إذن تركيا العلمانية الحديثة وريثة الدولة العثمانية «الإسلامية» المنحلة، تصرفت منذ قيامها بشكل يبعدها عن العرب ويلصقها بعدوهم ويجعلها مركز خطر دائم، تصرفت كما لو أنها عدو غير معلن، أو عدو خامد في الوقت الراهن.

بيد أنّ الدول العربية، خاصة سورية والعراق، المتشاركتين مع تركيا بحدود برية تزيد عن 1100 كلم، لم يبادلوا تركيا الشعور بالعداء هذا أقله ظاهراً حيث لم يكن من مصلحتهم او في جدول أولوياتهم الردّ على تركيا بالنفس العدائي الذي يطبع الأداء التركي حيال العرب، وتميّز السلوك العربي عامة والعراقي السوري خاصة باعتماد سياسة سحب الذرائع لمنع أي احتكاك مع تركيا أو نبش التاريخ التركي الأسود في العلاقة مع العرب او إثارة أيّ مشكلة من قبيل الاغتصاب للأرض، كما هو حال الإسكندرون السوري.

وبسبب العقلانية والواقعية العربية التي فرضتها الظروف الإقليمية والدولية وفي طليعتها الصراع العربي الصهيوني كانت تحلّ أيّ أزمة بين تركيا والعراق وسورية بالحوار الذي يفضي إلى اتفاق تشعر فيه تركيا أنها حصدت كسباً ما يجعلها تسكت ظرفياً كما حصل مثلاً في العام 1998 في أزمة المسلحين الأكراد ومياه الفرات مع سورية، حيث عولج التوتر باتفاقية أضنة التي هدّأت «الغضب التركي» في وقته.

بيد أنه في العام 2002 كان تحوّل استراتيجي مهمّ في الداخل التركي، تمثل بوصول الإسلاميين إلى الحكم عبر حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان، وهو تحوّل عول عليه العرب عامة وسورية خاصة الكثير، حيث إنّ هذه الحركة التي تتظاهر بإسلاميتها رفعت شعار نصرة الفلسطينيين والعمل من أجل حلّ قضيتهم. واستغلت سورية الظرف الذي طال انتظاره لأكثر من 50 سنة وظنت ان التوازن الاستراتيجي الذي طالما عمل الرئيس حافظ الأسد على تحقيقه بعد اختلاله إثر انحلال الاتحاد السوفياتي، انّ هذا التوازن يتلقى دفعة تزخيم قوية بضمّ الرقم التركي إلى الجانب العربي في المعادلة او أقله بخروج هذا الرقم من الجانب الإسرائيلي فيها. ولتشجيع أردوغان في سياسة تركية الجديدة، استجابت سورية إلى معظم ما طلبته تركيا لتكوين البيئة الاستراتيجية الجديدة التي تُخرج تركيا من دائرة العداء للعرب والتحالف مع «إسرائيل».

لكن النتائج جاءت عكس التوقع حيث ظاهر السياسة التركية خلاف باطنها وتبيّن أنّ أردوغان يتقن سياسة الاحتيال والزئبقية في المواقف والاستفادة من حسن الظنّ العربي به، ويمارس الخداع بإطلاق استراتيجية «صفر عداوات»، ليغري الآخر بأن لا أطماع لديه بحقوقه وثرواته واستغلّ فتح الأبواب العربية بوجهه خاصة أنه لمس وجود نزعة عربية لإقامة توازن إقليمي استراتيجي بين تركيا وإيران.

ومع الأيام الأولى من الحريق العربي الذي أسمي ربيعاً، انفضحت حقيقية الدور الذي يلعبه أردوغان، وظهر خبثه ونيته إحياء الدور العثماني البائد وتتالت الأيام لتقدّم الدليل تلو الدليل بأنّ أردوغان هو أخطر حاكم تركي على المصالح العربية منذ العام 1918 وحتى اليوم حيث تأكد بالبينة والدليل القطعي، ان تحالف أردوغان مع «إسرائيل» هو الأقوى من كلّ شيء، وان أردوغان يستند إلى تنظيم إسلامي دولي من أجل استعادة السيطرة على بلاد العرب وبأنه يتاجر بالقضية الفلسطينية كذباً وخداعاً للوصول إلى هذا الهدف وأنه ينخرط في حلف عميق مع «إسرائيل» ضدّ العرب ويتناغمان معاً ليساند كلّ طرف الطرف الآخر في سعيه لمكسب أو مصلحة على حساب العرب.

والآن وفي الوقت الذي تستعدّ فيه «إسرائيل» لابتلاع فلسطين التاريخية كلها وفقاً لرؤية ترامب للسلام المسمّاة «صفقة القرن» التي تصفّي القضية من دون أن تعيد للفلسطينيين حقاً او تحقق لهم مصلحة يتجه أردوغان إلى سلخ أراضٍ في العراق وسورية تحت ذريعة تحقيق الأمن القومي التركي، ويسعى لمدّ اليد على ليبيا عبر حكومة الإخوان المسلمين، ويحضر لوضع اليد على تونس ليقيم فيها حكومة الإخوان، أما الأخطر فهو ما يعدّ لمصر من خلال استدراجها إلى حرب في ليبيا تترافق مع اضطرابات في الداخل المصري تقود إلى انهيار وتشتّت.

إنّ هذا الزحف التركي المموّه بلباس إسلامي والمغطى بعباءة الإخوان المسلمين يستند إلى تحالف واضح مع «إسرائيل» وعلاقة تشجيعية متقلبة من الحلف الأطلسي وأمل بتفاهم مع روسيا يسعى أردوغان عبره إلى عملية مقايضة معها في ملف أو أكثر في الإقليم أو دولياً، كما يستفيد من انشغال إيراني بالمواجهة مع أميركا التي تخوض ضدّ إيران حرباً إرهابية اقتصادية تحت عنوان ممارسة الضغوط القصوى.

ورغم انّ مصلحة العرب تكمن في الصداقة مع تركيا إذ لا مصلحة لهم مطلقاً في عدائها، وطبعاً لا مصلحة لهم بقتالها، فإننا نرى انّ خطر تركيا اليوم على عليهم ليس طفيفاً عارضاً بل هو خطر استراتيجي إذا تحققت أهدافه يتطلب عشرات السنين لإزالة آثاره، وإن وقف هذا الأمر مصلحة عربية تركية مشتركة. لكن ذلك لا يكون بالاتكال على منظمات دولية متواطئة او عاجزة او دول لها انشغالاتها ومصالحها بل يكون بالاستناد إلى الحكمة في التعاطي مع الشأن عبر وضع استراتيجيات دفاعية عقلانية وواقعية تضعها الدول المهدّدة تمكن من تحشيد القوة واستعمالها للدفاع الفعلي، حيث يجب دون الانزلاق إلى حروب عبثية كما يجري في اليمن اليوم، وأن يستفيق العرب ولو بالصدفة ولمرة واحدة على الخطر الجارف الذي يهدّد بعضهم اليوم وكلهم غداً وليعلموا أنّ من يشعر نفسه بمنأى عن الخطر الصهيوني أو التركي أو سواه فهو واهمفكما كانت بلاد العرب كلها قبل العام 1920 تحت السيطرة او الاستعمار الأجنبي فإنّ الأخطار الأجنبية تهدّد هذه الدول بتقسيمها وبالعودة إلى ما كانت عليه.. أخطار جسام يفترض لمواجهتها اعتماد استراتيجية واقعية عقلانية شجاعة غير انتحارية تقوم على ما يلي:

1 ـ وقف الحروب العربية العبثية والتدخل في الشؤون الداخلية وكلّ أنواع العدوان المباشرة وغير مباشر بين الأشقاء.

2 ـ جمع الكلمة العربية ضمن الجامعة العربية لإظهار القوة العربية المتماسكة التي تقنع الآخر بوجوب وقف عدوانه.

3 ـ وقف العداوات الوهمية التي اخترعتها «إسرائيل» وأميركا للعرب كما فعلوا بالعلاقة مع إيران.

4 ـ ترك مهام الدفاع للحكومات الشرعية ترفدها الشعوب في كلّ دولة مع تقديم ما يمكن من مساعدة دون تجاوز.

5 ـ التعامل مع كلّ حالة تمارس فيه تركيا أو سواها عدواناً وفقاً لخصوصيتها، فإذا كان دعم الحكومة في العراق وسورية مفيداً في تمكينها من مواجهة الاحتلال التركي عسكرياً، فإنّ التصدي للتدخل التركي في ليبيا قد لا يكون مفيداً بحرب تشنّ على لبيبا عبر الحدود. وأعني هنا انه قد ينصب فخّ لمصر هناك ويجب ان تتجنّبه خاصة مع تحريك موضوع سدّ النهضة مع أثيوبيا.

أعلم انّ هذا الاقتراح حلم صعب المنالوأثق بأنّ محور المقاومة سيحقق المبتغى ويتابع الانتصارات في النطاق الذي يعمل فيهولكن ليس خطاً أن نحلم وليس خطاً أن ندعو الشقيق المهدّد بخطر ما أن يحتاط ويتجنّب فخاً ينصب له.

*أستاذ جامعيخبير استراتيجي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى