الوطن

‎«‎القنصل شيا»‏‎ ‎من بقايا عهد المتصرفية

} د. وفيق ابراهيم

يعتقد أهل التاريخ أنّ لبنان انتقل من نظام المتصرفية إلى عهدلبنان الكبيرفالدولة الحديثة في 1943، لكن هناك طرفين لم يصدقا هذا التطور وهما السفارات الغربية والخليجية ، ونظام الحكم اللبناني.

هؤلاء متشبثون بعهد متصرفية يديرها وجهاء من الطوائف المحلية ضمن احتلال عثماني وقناصل أجانب هم الحكام الفعليون.

السفيرة شيا، ومعها نفرٌ لا بأس به من سفراء الخليج، هم آخر قناصل يعرفهم لبنان. يؤدون يومياً نفس أدوار القناصل لجهة الإمساك بمعظم القوى السياسية والدينية وقادة الرأي العام ووسائل الإعلام ومراكز الاقتصاد والاستطلاعات ومحاور الحكومة.بالمقابل، هناك سفراء دول مثل روسيا و الصين وإيران وروسيا ومصر يلتزمون الجانب الدبلوماسي الصرف لجهة تمثيل مصالح بلادهم لدى السلطات المحلية اللبنانية، مقيمين علاقات اجتماعية إنما ضمن أضيق نطاق.

هذا يبين وجود نموذجين دبلوماسيين في لبنان.الأول، حديث يعترف باستقلال لبنان، مقابل جناح آخر يتعامل وكأنّ لبنان متشبث بالمتصرفية وهم مصرّون عليها.

فبدلاً من الاحتلال العثماني، حقق لبنان استقلاله الفعلي بعد معارك تحرير الجنوب حتى 2006، التي انتصر فيها حزب الله علىإسرائيل، مؤكداّ على هذا الاستقلال بالانتصار على الإرهاب في جرود عرسال في 2018.

لكنّ هذااللبنانالذي انتزع حريته بقوة أهله، ظلّ مُنصاعاً، على المستوى الدبلوماسي، لثلاثة سفراء: الأميركي والسعودي والإماراتي الذي يلعبون حالياً دور المحتل العثماني.

إلا أنّ السفيرة الأميركية هي عميدة القناصل، وقد تمكّنت في نصف عقد فقط من الهيمنة على التفاعلات السياسية، فأمسكت بالقوى السياسية والكهنوت باتصالات شبه يومية وتدير وسائل الإعلام ولقاءات وزيارات تتزايد على وقع تطور التفاعلات.

بذلك أصبحتشياركناً كبيراً مهيمناً، لها حضورها اليومي في القصر الجمهوري والسراي الحكومية ومكاتب الوزراء والسياسيين، حتى أنها زارت مؤخراً رئيس الجمهورية ميشال عون برفقة البطريرك الراعي لمنع إقالة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.

وكرّرت الزيارة لعون في اليوم التالي، بشكل اعتبره المراقبون خرقاً علنياً لكلّ أصول العلاقات الدبلوماسية.

وتتنقّل شيا منبيت الكتائبإلىبيت الوسطالحريري إلى مقر جعجع وتعرّج في محاولة لإضفاء توازن على تحركاتها على عين التينة وتتصوّر معالأستاذالذي يعرف مقاصدها والأبعاد.

هناك أيضاً السفيران السعودي والإماراتي اللذان يقلدانشيا، لكنهما لم ينجحا في بناء مواقع مماثلة لها، نظراً للاختراق الأعمق في أجهزتها السياسية والاستخباراتية.

إنّ هذا النوع من الانتهاكات الدبلوماسية أصبح جزءاً من السياسة اللبنانية الداخلية، فيتابع حتى أدنى تفاصيلها، فتحركها بقوة لتنفيذ سياسات أميركية تريد القضاء على الأدوار الداخلية والإقليمية لحزب الله.

لا بدّ هنا من الاعتراف بأنّ للسفيرة الحق بعدم تأييد جهة داخلية لمصلحة تأييد جهة أخرى، لكنّ ما لا يحق لها هو العمل اليومي السياسي وليس الدبلوماسي في الداخل اللبناني لتجميع قوى وتحشيدها في وجه أي قوة لبنانية. فهذا عمل تستطيع وزارة الخارجية الأميركية أن تقوم به من بلادها أو إعلامياً، أما أن تتحرك شيا في لبنان لتحشيد الداخل واستعمال الإعلام وكلّ وسائل التأثير بشكل علني وتهديد البنانيين بالجوع إذا لم يتخلّوا عن حكومة دياب التي تسميها السفيرة حكومة حزب الله، فهذا انتهاك لأصول العمل الدبلوماسي واحتقار للدولة اللبنانية وحكومتها.

كما أنّ السفيرة دوروثي شيا تنتهك القانون الدولي واتفاقية فيينا، ذلك أنها عندما تتّهم مكوناً أساسياً لبنانياً هو حزب الله بالإرهاب، فهي تتهم الدولة اللبنانية التي يشكل حزب الله جزءاً منها بالإرهاب وتدعو إلى إسقاط حكومة دياب التي يعتبرها اللبنانيون فرصة هامة للإنقاذ.

يتبين بالاستنتاج أنّ شيا تجاوزت الأعمال الدبلوماسية لتلعب دور المهيمن على لبنان والمتلاعب بالسياسات والمنفذ لسياسات تجويع وحصار ومنسّق لتجميع بعض القوى السياسية اللبنانية وتمويلها وتوجيهها لعرقلة الحكومة واستهداف الرئيس ميشال عون والتصويب على حزب الله بشكل مباشر عبر تحميل سلاحه مسؤولية تجويع لبنان.

هذه المعطيات دفعت بقاضٍ لبناني شجاع إلى إصدار حكم يحظّر على وسائل الإعلام الداخلية والأجنبية العاملة في لبنان تغطية أحاديث السفيرة على المستوى الإعلامي ويدعو إلى حظر إطلالاتها اليومية، مُتفًّوقاً بذلك على دولته المتوارية التي تخاف من التأديب الأميركي فتتصرف وكأنّ الأمر لا يعنيها. هذا ما استجلب غضب المحور الأميركي الخليجي وسخط السفيرة والخارجية الأميركية و»إسرائيل» التي اتهمت القاضي بأنه مُوالٍ لحزب الله.

لم يبقَ أحد في محور «الكتائب» و»الأحرار» و»القوات» ومعوض وسامي والمشنوق والريفي والحريريين إلا واستنكر قرار القاضي الشجاع.

لا شك أنه كان على الحكومة اللبنانية، عبر وزير خارجيتها، أن تكون هي صاحبة الطلب من شيا حصر مهامها ضمن الإطار الدبلوماسي وفي إطار قنواته الرسمية أن تملي على أحد الشجعان أن ينبري لتأدية هذا الدور الوطني الشديد الكلفة، فملأه القاضي محمد مازح الذي يجب على كلّ الوطنيين في لبنان دعمه ومنع التعرض القانوني والإداري له وتشكيل سور حماية شعبية له، لأنه قدم صورة الدولة التي ترفض أن تبقى في عصر المتصرفية وقناصلها وتطمح إلى حماية سيادتها وشعبها والمحاور الداخلية التي تؤدّي منذ 1982  بطولات في الدفاع عن وطن لبناني يصرّ جماعة أميرية على إبقائه في عصر القائمقاميتين والمتصرفية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى