أخيرة

من وحي دردشة الصباح

} وسام غزالة

الدردشة الصباحيّة للأمين إلياس عشّي، حول موضوع الساعة كما يقولون، لهي التعبير الحقيقي عن لسان الأمّة، التي هي مهد الايمان والتقوى، لكلّ من امن بدعوة ابراهيم بوحدانية الخالق، والذي هو جدّ الأنبياء والرسل، كما تقول الكتب، والجميع في ايمانهم يرجعون الى ما أوحى له ربّه به، مهما تنوّعت تفاسير أديانهم السماويّة، أو اختلفت مشاربهم المذهبيّة والطائفيّة.

الصراع الطائفي عبر التاريخ في بلادنا، هو دافع أساس لحروب جرّت على أمّتنا الويل والقهر والظلم والعذاب وأغرقتنا في وحول التفرقة البغيضة، التي أدّت بنا الى التخلّف عن اللحاق برُكب التقدّم العِلمي والفهم المعرفي، سبيلاً للوصول الى الاقرار بوحدة المصير المشترك، والذي هو نتيجة وحدة التاريخ والجغرافيا، والتي يعرفها السوريّون القوميّون الاجتماعيّون، أكثر من غيرهم، ذلك لاعتناقهم فكر سعاده الذي نفض الغبار عن حقيقتها، لكي تصبح عقيدة لا يُشكّ في صحّتها عند احكام المنطق، واعمال الذهن في تحليل مداركها.

اعلان أردوغان تحويل أثر أو متحف كنيسة «أيا صوفيا» الى مسجد، أمر له دلالات كثيرة، يريده حاكم تركيا القويّ، كحدثٍ يستعمله ليستفيد بانعكاساته، التي هي موجّهة نحو نواح عديدة، أوروبا في مقدّمتها ومن ثمّ الى جنوب بلاده سورية، وصولاً الى الخليج، ومن خلاله الى مصر والشمال الأفريقي.

ضربة معلّم كما يُقال بالمفهوم السياسي، يُحاول من خلالها أن يُذكّر أوروبا بأنّ تركيا هي وريثة الإمبراطورية التي سيطرت على مقرّ المسيحية المشرقية، وأرست دعائم الخلافة الاسلامية في أغلب المناطق امتداداً من شرق أوروبا الى اسيا الوسطى إلى الشرق الأوسط وجزر المتوسط وصولاً إلى شمال أفريقيا، وهو يستطيع أن يكون الباب العالي للمسلمين، ويحارب بسيوفهم اذا أرادوا، وهذه الرسالة ذاتها يوجّهها في الوقت نفسه الى المسلمين في بلادنا وشمال أفريقيا، ليحثّهم على دعم سياسته، والالتفاف حول تركيا، وبهذا يستطيع أن يُشارك في وضع اليد على حصّة من حقول النفط والغاز في شمال بلادنا ومياه المتوسّط والشمال الأفريقي هو وشركاوه في المعسكر الواحد.

تحويل الكنيسة الى جامع ليس أمراً ايمانياً أو دافعاً لعقيدة دينيّة، لكي نأخذه على ما يُريد منّا أردوغان أن نفهمه، وننفعل به، بل هو فخّ لنا، لنشعر بالشجب أو الرضى، ونعود فنقف مقابل بعضنا البعض بنعرة دينيّة أو مذهبيّة، ولنرفع الكلمات المُتأثرة والرافضة، أو البيانات الداعمة والمُشيّدة بالخطوة، وبذلك تكون خطّته السياسيّة قد نجحت، ليحصد شعور بعض المُسلمين الغارقين بجهلهم تعاليم دينهم، وليؤجّج شعور بعض المسيحيّين الذين لا يرون واقع الأمر.

« أيا صوفيا» كنيسة الحِكمة المُقدسة والتي تعاقب على مقرّها الكاتدرالي، منذ إتمام بنائها سنة 537 ميلاديّة البيزنطيون واليونان والرومان وعاد بعدهم اليونان، الى أن احتلّها العثمانيون وحوّلوها من كنيسة الى جامع سنة 1453 حتّى سنة 1935، حيث جعلها أتاتورك متحفاً، وها هو أردوغان يُريد اعادة تحويلها اليوم جامعاً.

بالنظر الى تاريخ هذا البناء الرائع والذي هو من أهم المعالم الهندسيّة في التاريخ لضخامة قبّته المرفوعة، وجمال ودقّة وروعة تصميم بنائه، نستطيع أن نفهم حقيقة بقائه كصرح أثري واية خلّابة لا نظير لها في البنيان الهندسي، وليس فقط لما يحويه من ارث دينيّ تلوّن عبر التاريخ، وتغيّر في حقبات طويلة متتالية.

ما جاء في دردشة الصباح حول مكرمة أسقف كنيسة القيامة بالترحيب بالخليفة عمر للصلاة فيها، ومأثرة الأخير بالامتناع واقامة الصلاة خارجها، لهو دليل تاريخي قاطع على سمو فكر ووجدان شعبنا، وعلمه الصحيح بدينه ومعتقده الايمانيّ، هذا ما نعرفه ونحفظه في مخزوننا الروحي ومفهومنا الانساني ووعينا المعرفي، ولسنا نحتاج الى أيّ حدث سياسيّ مهما كان شكله لنوكّد ذلك، أو لنجهر به ردّاً على، أو درءاً عن.

قرار أردوغان لا يعنينا لا من قريب ولا من بعيد، فهو شأن تركيّ أوروبيّ أو تركيّ  – خليجي، وهو لا يُقدّم ولا يوخّر ولا يؤثّر أبداً بفهم شعبنا الذي يومن بأنّنا كلّنا مسلّمون لربّ واحد مهما تنوّعت أماكن عبادتنا، وأنّ كنيستنا أو جامعنا ليس حجارة مرصوفة بشكل جميل، أو أعمدة مبنيّة بإتّقان، أو قبباً مرفوعة بفنّ رائع، أو صوراً بديعة معلّقة، أو ماذن مشادة بهندسة أخّاذة، أو آيات مزخرفة ومنقوشة بخطّ أنيق، بل هي ما نتحدّثه مع الاخر من اعتراف بالخالق الواحد وبانسانيتنا وضرورة وحدتنا المُجتمعيّة، للنهوض بمفاهيم راقية نحو وحدتنا.

فليفعل أردوغان ما يشاء، لأنّ التاريخ وحده هو الفصل بتأثير الأحداث ونتيجتها، ومهما تمادى البطلان والغيّ، لا بدّ للحقّ أن ينتصر، ما دام الايمان ينبع من الشعب المؤمن بحقيقة وجوده وبقوّته التي ستفعل حتماً وستُغيّر وجه التاريخ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى