أولى

القوة وفائض القوة…

 سعادة مصطفى أرشيد*

ارتبطت تركيا في ذاكرتنا بصورة سلبية، فقد ترهّلت وشاخت الدولة العثمانية منذ القرن التاسع عشر، ونخرها سوس الفساد، وساد فيها الاستبداد السياسي والإداري وتخلفت عن مواكبة سنة التقدم والتطور المتسارعة في العالم، دخلت وأدخلتنا في عصور الظلام والتخلف، وفقدت احترامها بعد أن أصبحت مسرحاً لتدخل الدول الأجنبية المعادية وأصبح قناصل تلك الدول في القدس ودمشق وبيروت وحلب يمثلون سلطة أقوى من سلطة الولاة والإداريين العثمانيين، ومواطنيهم فوق القانون العثماني فهم لا يحاكمون إلا من قناصلهم واستحقت الدولة العثمانية بجدارة لقب الرجل المريض. تغوّل الولاة وجباة الضرائب والأعشار على عامة الناس فسلبوهم القليل الذي يقتاتون به، أما عندما حاولت الدولة اللحاق بالعالم المتقدم، قامت باعتماد سياسة التتريك الإقصائيّة لغير الأتراك، اختزنت ذاكرتنا الجمعية مع ما تقدم ذكره، أفعال قائد الجيش الرابع جمال باشا (السفاح) وأسلوبه في معالجة هزائمه بإعدام كوكبة من خيرة رجال الوطن في دمشق وبيروت وعاليه، أما في العهد الكمالي (الأتاتوركي) فقد تمّ سلب لواء اسكندرون بالتآمر مع الفرنسيين، وعمل أتاتورك وفريقه على بناء الشخصية التركية الجديدة على أنها نقيضنا وعدو لنا وتبنى الثقافة الغربية معتقداً أنها قادرة على جعله وجعل بلاده جزءاً من أوروبا، وقد ارتبطت تركيا أتاتورك بالمشاريع المعادية وأصبحت دولة صديقة وحليفة لـ (إسرائيل).

لكن إشارات مشجّعة لاحت في الأفق الرمادي في تسعينيات القرن الماضي، عندما فاز حزب الرفاه بالحكم، ثم تعززت بفوز حزب العدالة والتنمية بالانتخابات عام 2002 بقيادة الثالوث أردوغان، عبد الله غول، واحمد داوود اوغلو، وهذا الأخير كانت له مساهمته الهامة والإيجابية في وضع قواعد جديدة للسياسة الخارجية التركية، شرحها تفصيلاً في كتابه المثير والشيّق (البعد الاستراتيجي) الذي صدرت طبعته العربية عام 2010، وقد لقي اهتماماً غير مسبوق في الأوساط السياسية والثقافية، إذ ظهرت تركيا أخرى غير التي عرفها العالم لثمانية عقود، تركيا التي تظهر استقلالاً عن الغرب واقتراباً من الشرق باعتباره محيطها الطبيعي، وهي وإن كانت لا تزال ترنو لدخول الاتحاد الأوروبي ولكنها في الوقت ذاته تسعى نحو الشرق بثقة وإيمان أنها جزء منه، كذلك لا تبدي على أطلسيتها عواطف حميمة تجاه دولة الاحتلال، بقدر ما تبدي تعاطفاً مع قضايانا جميعها وخاصة في فلسطين، ولا زالت مداخلة أردوغان في دافوس التي وضع بها حداً مهيناً لغطرسة شمعون بيريس مجال إعجاب وتقدير، هذه السياسة التي أسمتها أنقرة بسياسة (صفر مشاكل)، أرادت بها الخلاص من تناقضاتها القديمة وما أكثرها، بدءاً بأعدائها التاريخيين روسيا واليونان وقبرص، ثم مع الأرمن المتهمة بارتكاب مجازر الإبادة تجاههم، ثم مع دمشق وبغداد وطهران والأكراد.

استبشر الجميع خيراً من هذه السياسة الجديدة، فمن النواحي الفكرية استطاعت تقديم نموذجاً إسلامياً معتدلاً وبعيداً عن التعصّب وحرفية النصوص والغيبية، وفي السياسة إذا أصبحت تركيا الجديدة ظهيراً قوياً لعالمها الحقيقي ومجالها الحيوي، بعد أن كانت لثمانية عقود من الكمالية، مخلب قط بالغ العدوانية في مواجهه العالم العربي والمشرق بأسره. عادت تركيا إلى جوارها الطبيعي، لتكون جزءاً من المنطقة، وعقدت الآمال على أنّ ثالوث العالمين الفارسي والتركي (عالمين توسعا إثر تفكك الاتحاد السوفياتي واستقلال دول ذات أصول وثقافات فارسية أو تركية) والعالم العربي قادر على العمل المشترك وبناء كتلة وازنة في عالم القطب الواحد، أشاع حكم العدالة والتنمية الحريات العامة وكرّس الديمقراطية أساساً لتداول الحكم، وألزم الجيش بثكناته لقطع الطريق أمام الانقلابات العسكرية. أما في الجانب الاقتصادي، فتمّ ضرب الفساد في دوائر الدولة وإطلاق طاقات الأجيال الشابة، فازدهر الاقتصاد وتقدّمت التجارة والصناعة لتصبح ذات قدرة تنافسية في الجودة والسعر، وانتشرت المنتجعات السياحيّة وأصبحت قبلة السياح من أوروبا والعالم العربي، وقدّمت المسلسلات الدرامية التركية نماذج إسلامية بها بعض التغريب واللبرالية أثارت إعجاب المشاهدين.

لكن ذلك كله ما لبث أن تداعى عندما داهمنا «الربيع» الزائف، إذ سرعان ما أدّى إلى انكشاف وجه آخر للبلد الذي علقنا عليه الآمال. وجه لا يتفق مع التقديرات المتفائلة السابقة، فأظهرت تركيا نياتها وطموحاتها العثمانية القومية غير الودية تجاه جيرانها، ولكن باستبدال النموذج الكمالي الطوراني العلماني المتعصّب بالنموذج الأردوغاني العثماني الإسلامي المتعصب أيضاً الذي يرى أنّ له حقوقاً في ما كان ذات يوم دولة علية (عثمانية) وريثة دول الخلافة الإسلامية، واستذاق أردوغان حلاوة ما حققه وحزبه من رخاء وتقدّم وازدهار وانتشار، ولكن بدلاً من أن يستمر في الطريق ذاتها، أخذته النشوة إلى التحوّل من سياسة (صفر مشاكل) إلى سياسات مشتبكة مع جميع من سبق له تصفير المشاكل معهم، فدخل على خط الأزمة السورية واظهر انه كان شريكاً في التخطيط لها داعماً منظمات الإرهاب والتطرف وناهباً مصانع حلب وآثارها ومتاجرها مع العصابات الإرهابية بالبترول السوري المسروق، ووعد بإسقاط النظام في عام 2012 خلال شهور وأن يصلي في الجامع الأموي بمنطق الفاتح، الأمر الذي لم يستطع فعله لا خلال شهور ولا بعد ثماني سنوات، وتدخل في العراق معتبراً انّ لتركيا حقاً تاريخياً في التدخل ويهدّد العراق وسورية بمنابع نهري دجلة والفرات، وفي لبنان حيث يدعم التطرف في طرابلس والتنابذ المذهبي ويحرض على المقاومة بذرائع طائفية متطرفة، يحاول الاحتكاك بالأردن من بوابة القدس وسدانة المسجد الأقصى وقبة الصخرة، وعاد ليقاتل الأكراد ويشتبك مع الأرمن وساءت علاقته باليونان وروسيا التي أسقط إحدى طائراتها واضطر لتقديم اعتذار مهين للرئيس الروسي، ومؤخراً بعث بعساكره على ليبيا ونقل إليها آلاف الإرهابيين من الشمال السوريحيث لم يعد يستطيع تحقيق أحلامه إلا أنه قد يستطيع إطالة عمر الأزمة، وهو بذلك يهدّد مصر وأمنها المتهاوي، لتركيا وأردوغان الحق في الدفاع عن مصالحهم العليا، ولكن لنا الحق أيضاً في الدفاع عن أمننا القومي وأن لا نقبل العبث به، لتستطيع تركيا دخول المجموعة الأوروبية من خلال ابتزاز أوروبا بقضايا المهاجرين في ليبيا.

أما على الصعيد الداخلي، اختلف مع فتح الله غولن ثم مع شريكيه عبد الله غول وأحمد داوود أوغلو وغيرهم من أركان حزبه وغير حزبه من أطياف سياسية

مؤخراً، تمّ اعتماد آيا صوفيا لتصبح مسجداً كما كانت عليه قبل العهود الكمالية، وبغضّ النظر عن المقدمات القانونية، وملابسات الحجج التاريخية، فإن ذلك القرار أثار نقاشاً يبدو انه سيأخذ وقتاً ويريق حبراً ويحدث تشنّجات في محلها وفي غير محلها. آيا صوفيا بناء بالغ الجمال والروعة بني مع بناء القسطنطينية المدينة التي تقع في قارتي آسيا وأوروبا، لتكون أيقونة العمارة الكنسية والكاتدرائية الأهمّ في العالم، وبقيت كذلك لألف عام، واثر فتح القسطنطينية، حوّلها محمد الفاتح العثماني إلى مسجد لخمسمئة عام وأصبحت متحفاً في العهد الكمالي لتسعة عقود، يرى أردوغان في هذه الخطوة تعزيزاً لزعامته التركية والإسلامية السنية، وانتصاراً يضاف إلى انتصاراته، ولكنه أيضاً بهذه الخطوة يزيد من أعدائه ومنهم الباكي ومنهم المتباكي على آيا صوفيا، ثم يدفع باتجاه توتير علاقاته بالعالم الغربي ويؤزمها أكثر مع العالم الارثوذكسي، وقد يتخذ نتنياهو من ذلك حجة ومبرّراً لتنفيذ أجنداته الخبيثة في القدس ومقدساتها.

تعيد هذه المسألة الأذهان إلى الفوارق بين التسامح والتعصب الديني والاستبداد السياسي، يمكن ملاحظة ذلك بمقارنة موقف الخليفة عمر بن الخطاب تجاه كنيسة القيامة التي احترمها وأمر برعايتها هي وغيرها من الكنائس، بأداء معاوية تجاه كنيسة حنانيا التي أصبحت المسجد الأمويّ بشرائها شراء القوي الآمر، وقد نص القرآن على ضرورة احترام الكنائس وساكنيها من القسس والرهبان الذين تفيض أعينهم من الدمع، ولكن عهوداً أخرى ساد فيها التعصب أكثر من التدين في طرفي المعادلة أصبح تحويل المنتصر أماكن عبادة المهزوم أماكن لا تليق بقدسيتها كما يحصل اليوم في مساجد عسقلان وقيسارية التي تحوّلت إلى بيوت ليل وخلاعة أو لتحويلها إلى أماكن عبادة لدين المنتصر هو السائد، كما حصل في المسجد الأقصى إبان الاحتلال الفرنجي (الصليبي) للقدس ومساجد اشبيلية وقرطبة وطليطلة، وكما حصل في المسجد الصلاحي الكبير في نابلس على سبيل المثال الذي تحوّل من كنيسة إلى مسجد.

في يقيني وإيماني أنّ المؤمنين برسالتيْ الإسلام المسيحية والمحمدية يستطيعون عبادة الله في أيّ مكان وأيّ زمان والعالم مليء بالمساجد والكنائس التي وظيفتها تحقيق الراحة والسكينة للنفس المؤمنة، لا أن تكون مصدراً للشقاق والخلاف، الأمر الذي نعايشه اليوم في قصة آيا صوفيا، الخشية من أن يدفع هذا الإجراء مجتمعاتنا المتهالكة إلى مزيد من التفتت، وإلى مزيد من الانقسام على أسس طائفيه ومذهبية.

يلجأ أردوغان إلى فائض القوة داخلياً وخارجياً، الأمر الذي يعود عليه بالضرر. فللقوة حدود تقتضي الحذر باستعمالها إلا بأسباب موجبة، القوة ضرورة للدول حيث إنها تحقق المصالح وتصون البلاد، أما فائضها فإنه يصنع الإشكاليات والاضطرابات وغالباً ما يعود بالأذى على من اتخذه سياسة.

كم نحن بحاجة لإطفاء الحرائق المشتعلة بدلاً من إذكاء لهيبها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*سياسي فلسطيني مقيم في جنينفلسطين المحتلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى