أولى

دورة التاريخ المئويّة…

 

 سعادة مصطفى أرشيد _

مع حلول منتصف القرن التاسع عشر، خسرت الدولة العثمانية كثيراً من حروبها التي خاضتها منفردة خارجياً، ولم تستطع أن تربح معركة الحداثة داخلياً، إذ أصبحت دولة شبه فاشلة بلغتنا المعاصرة، الأمر الذي دعا قيصر روسيا نقولا الأول لأن يطلق عليها لقب الرجل المريض وهو الاسم الذي شاع تداوله باعتباره وصفاً موجزاً ودقيقاً لحالتها آنذاك. في ذلك الوقت أصبحت بلادنا وسائر أراضي الدولة العثمانية ساحة للتنافس بين روسيا الأوراسية والدول الأوروبية الغربية، جميعهم يريد أن يلتهم جسدها المتعب، روسيا قبل أن تموت ولكن أوروبا كانت تنتظرها بصبر لتلفظ آخر أنفاسها لتفترسها جثة هامدة، أخذ قناصل تلك الدول يمارسون السلطة والنفوذ، في القدس ودمشق وحلب وبيروت والموصل بشكل يفوق ما تمارسه الدولة من سطوة وما يمارسه ولاتها وعمالها. مع نهاية الحرب العالميّة الأولى لفظت تلك الدولة أنفاسها الأخيرة وخرجت من بلادنا وليسارع بملء الفراغ الذي أحدثته فوراً ودون إبطاء المنتصران الانجليزيّ والفرنسيّ.

في الوقت الذي كان آخر جنود الحامية العثمانية يغادر القدس شمالاً، كانت عساكر الانجليز تدخلها من الجهات الأخرى وعلى رأسهم القائد الجنرال ادموند اللينبي الذي ترجّل عن حصانه عند باب القدس الغربي (باب الخليل) ليدخل المدينة ماشياً على قدميه، ربما كان ذلك احتراماً وإجلالاً لقدسية المدينة ومكانتها الروحية، ولكن المؤكد أن ذلك كان إحياء لتقاليد أسلافه الفرنجة (الصليبيين) الذين غادروها مهزومين قبل قرابة الثمانية قرون خلت، ويؤكد هذا الرأي تصريحه المقتضب المعبّر عما في خاطرة:(The crusades war have now ended)  الآن انتهت الحروب الصليبية، أما في اليوم الذي تلى معركة ميسلون فقد دخل دمشق الجنرال الفرنسي غورو وتوجهه من فوره إلى المسجد الأموي ليخاطب ضريح صلاح الدين بقوله ( Saladin, vous veila): ها قد عدنا يا صلاح الدين، وفي ذلك ما يؤكد أنه كان يرى في نفسه فاتحاً ووارثاً لأسلافه المشتركين مع الجنرال الانجليزي اللينبي، هذا وان كان ما قيل قد عبّر عن روح استشراقية استعلائية ودينية، إلا أنّ دوافعها الاستعمارية المعاصرة كانت أقوى.

سرعان ما أخذ الاحتلال الاستعماري مصطلحاً لطيفاً وهو الانتداب متخذاً شرعية أممية مصدرها عصبة الأمم، ومعها تفويضاً غربياً رأسمالياً بإدارة البلاد بالاسم الجديد وهو بموجب ميثاق عصبة الأمم أن تقوم الدولة المنتدبة بتولي شؤون حكم الشعوب التي لم تبلغ سن الرشد لتستطيع حكم نفسها بنفسها، بالطبع كانت تلك القرارات الأممية منحازة أصلاً لمصالح المنتصرين في الحرب واتفاقياتهم المسبقة وعلى رأسها الاتفاق الانجلوفرنسي الشهير باتفاقية سايكسبيكو.

عملت الإدارتان الانجليزية والفرنسية على تنفيذ التفويض الرأسمالي الغربي، كلّ في منطقة نفوذها وبطريقتها على طرد ومسح ما تبقى من نفوذ أو ثقافة للدولة العثمانية، وحالت دون قيام وحدة قومية تجمع بين تلك الأقطار والكيانات التي اصطنعتها، وقامت بصياغة المجتمع بصيغ أثنية أو طائفية مذهبية، ولم تسمح بقيام حكم وطني حقيقي، وعملت على سرقة الموارد والسيطرة على الاقتصاد والوصاية على شؤون السياسة والتشريع، وكان من مهامها الدولية العمل على منع الخصم الأوراسي (الاتحاد السوفياتي) التاريخي ثم العقائدي من التمدّد بالعالم والوصول إلى المياه الدافئة في شرق المتوسط.

مئة عام تفصل بين يومنا هذا واليوم الذي وقف فيه غورو قبالة ضريح صلاح الدين، تمّ خلالها تدعيم حدود سايكسبيكو، وإدخال تلك الحدود إلى الأذهان والمناهج الدراسية، وأوجد المستعمر زعامات هزيلة ترى في الأوطان الوهمية المجتزأة إمكانية الحصول على حصة اكبر من مغانم السلطة، ازدادت حالة الشرذمة الكيانية الضيقة، وتمأسست الطائفية والمذهبية، وأخذت الاثنية تطل برأسها على حساب القومية الجامعة. وفي العقد الأخير عصفت بنا رياح الربيع الزائف لتكشف ما خفي من عورات حالة التجزئة الجغرافية والسياسية والهوان الطائفي والمذهبي والاثني، وترافقت مع تفجيرات متتابعة بعضها له دوي وآخر صامت ولكنها في الحالتين مدمّرة، وقد كان آخرها وأكثرها دوياً ما حصل في مرفأ بيروت.

كانت للرئيس الفرنسيولا تزالزيارة مقرّرة لبيروت في أيلول المقبل، وذلك للاحتفال بمئوية إقامة لبنان الكبير الذي اقتطعه الجنرال غورو من سورية الأم الشرعيّة ليكون وطناً مسيحيّ الطابع، فرنسي الهوى، منبتاً عن محيطه القومي، إلا أنّ الكارثة التي ألمّت ببيروت ومرفأها دعته للقيام بزيارة فورية إلى لبنان، لا يسبقه إليها أحد، كيف لا وهو الأمّ الحنون والقابلة التي أخرجت لبنان من رحم سورية، والرئيس الفرنسي برغم علمانيّته وعلمانيّة دولته، لا يريد أن يتخلى عن دور بلاده العلمانية في تكريس النظام الطائفي في لبنان وتبني بعض الأفراد من بعض طائفة بعينها.

استقبل بعض من أولئك البعض، الرئيس ماكرون باعتباره (الماما)، وقد زار موقع الحدث، وجال في الشوارع المجاورة التي تضرّرت، ولحقت به جموع من الغوغاء متقدّمة إليه بعرائض تطالب بعودة الانتداب (الاحتلال) الفرنسي، باعتباره القادر على حل مشاكل البلد الذي يتداعى من الفساد والفقر والفشل وتزكمه رائحة النفايات، وتعتم ليلة الكهرباء المتقطعة وتحرقه وتحطمه نترات الأمونيا.

كانت كلمة ماكرون في القصر الجمهوري صريحة وجارحة برغم ما ورد في بعضها من صواب توصيفي، وقد امتازت بطريقتها الاستشراقية الاستعمارية البيضاء المتعالية، إذ أكد على شرط أن تسبق الإصلاحات في بنية لبنان وصول المساعدات إليه بأشكالها (التي سيحدّد مواصفاتها)، وأكد لمستمعيه أنهم لا زالوا دون سنّ الرشد السياسي ليستطيعوا حكم أنفسهم، حتى أنهم عجزوا عن حل أبسط المشكلات كالنفايات والكهرباء، ثم أكد لهم أنه يعرفهم جيداً ويعرف أنهم قد قبضوا (سرقوا)، متناسياً أنهم من صناعة أسلافة وإنتاجهم، ثم طالب بتشكيل حكومة وحدة وطنية، تحلّ محلّ حكومة الرئيس دياب النزيهة، وهو الأمر الذي لا يجوز أن ينطلي على من صمت لسانهم عن التعقيب على الزيارة ومفاعيلها وما ظهر من أهدافها وما بطن، باعتباره تكرّم وتحنّن ورفض استثناءهم من لقائه الموسع في القصر الجمهوري، أو لأنه خصّ أحدهم أو بعضاً منهم بمحادثة جانبية سريعة.

في تكرار تاريخي، جاءت هذه الزيارة، فالرئيس ماكرون وإنْ ربطته وبلاده الروابط الخاصة بلبنان وبعض طوائفه إلا أنه جاء كما جاء أسلافه قبل قرن ممثلاً للمصالح والقوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، في العمل على عدم وصول روسيا وغيرها إلى لبنان، في جعبة الرئيس ماكرون أهداف معلنة وأخرى مضمرة يمكن استقراؤها.

الأهداف المعلنة هي في إعادة إنتاج النظام اللبناني على الأسس الطائفية ذاتها، وإسقاط حكومة الرئيس حسان دياب حتى لا يتمّ فتح ملفات الفساد لبنانياً، ففتح هذه الملفات سيكون شأناً فرنسياً غربياً يتمّ بشكل انتقائي ولابتزاز بعض السياسيين، وفي جعبته العمل على تعميق ابتعاد لبنان عن محيطة القومي الطبيعي، خاصة أنّ حادثة التفجير وخروج مرفأ بيروت من الخدمة سيضطر لبنان لتجاوز قانون قيصر والعقوبات المفروضة على سورية، فلا مناص من اللجوء إلى الموانئ السورية كاللاذقية وطرطوس لاستيراد القمح والزجاج وكثير من حاجات لبنان، وإعادة ربطه بشكل أوثق بفرنسا والغرب ومعإسرائيللاحقاً، وفي الجعبة أيضاً الحؤول دون استدارة لبنان شرقاً باتجاه روسيا كما ورد آنفا، أو باتجاه إيران وعروضها النفطية المناسبة والمفيدة، وعدم قبول العرض الصيني السخي بإعادة إعمار مرفأ بيروت وفق أرقى المعايير الهندسية وبأسعار بالغة الزهد وطريقة دفع مريحة وسهلة ومناسبة للدولة اللبنانية، ولكنها غير مناسبة ومزعجة لعقلية المرابي الرأسمالي الغربي.

أما الأهداف المضمرة، ففي مقدّمتها العمل على إلحاق لبنان بمحور الحرب الغربي الذي تقوده فرنسا ويضمّ كلاً من مصر واليونان وإسرائيلوقبرص، في مواجهة الأتراك، وفي الصراع على ترسيم الحدود البحرية ومدّ خطوط الغاز عبر المتوسط والصراع على ليبيا، وهذا يحمل في ثناياه ربط لبنان وحقول غازه بـإسرائيلبشكل غير مباشر، على أن يؤول إلى ربط مباشر، عندما يأتي الوقت المناسبوظني انه لن يأتيلتكرار تجربة 17 أيار البائسة.

يختلف زائرنا الرئيس ماكرون في عام 2020 بالشكل عن سلفه الجنرال غورو 1920 ولكن بالمضمون لا، الفرق إنه تكرار معاصر

*سياسي فلسطيني مقيم في الضفة الغربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى