ثقافة وفنون

المثقف بين هاجس الخوف وقلق الوجود قراءة في « جمرات من ثلج» لمها خير بك ناصر

} أ.د. خديجة شهاب*

تَنسج الروائيّة القلق عند المثقف العربي منذ اللحظة التي تطأ فيها عتبة الرواية، وقد اختارت لها عنوانًا إشكاليًّا يطرح الكثير من الأسئلة، إذ كيف لها أن تجمع بين نقضين؟ وكيف يمكن لأحدهما أن يخدم الآخر؟

  فالجمرات كُتلٌ مشتعلة لا يمكن لأحد أن يقرب منها أو يمسكها إذ سيؤذي نفسه؛ ويكوي جلده من  التهابها، أضف إلى أنّها في مكان ما تُعبر عما يختلج النفس من حرارة تلتهب في قلب الإنسان يُعبِّر عنها بالشوق إلى من يحبّ. أمّا الجمر فمن المفترض به أن يُطفئ لهيب الجمر، ويبدد مفعوله المؤذي في جسد الإنسان؛ إلا أنّه وفي المقلب الآخر يحمل الأذية نفسها لأنّه هو الآخر يجرح ويترك أثرًا، وفي كلا الحالين يُجرح المرء ويتألم.

يتبدى القلق عند الأنثى التي لم تخرج كثيرًا من عباءة الأعراف والتقاليد، على الرّغم من أنّها مثقفة ووصلت إلى مستويات عليا في التعلم، فهي بحسب الرواية أستاذة جامعية ولها مكانتها في المستوى الثقافي، وهي إذ تقول «كنتُ مع بدء رحلتي مع العمل قلقة من رؤيته كلّ يوم» (ص. 7) يتوزع هذا القلق باتجاهات متعددة، تارة باتجاه الحياة السياسية، وأخرى باتجاه الحياة الاجتماعية، فالرواية كُتبت في ظل الأحداث الأليمة، والحرب الأهلية التي عصفت بلبنان، وبالتالي فاحتمالات الخوف والقلق مفتوحة على كل الاتجاهات.

 هي تخاف من الرّجل، لعلّه أراد أن يتحرّش بها لغاية ما، إذ إنّ الفكر الأنثويّ الشّرقيّ طبع على تصرفات المرأة التي بجب عليها أن تُحصّن نفسها من تحرش ذكوري، وعلى الرّغم من الخوف والقلق اللذين سيطرا عليها بسبب مراقبة الرّجل لها إلا أنّها كسرت حاجز القيود المجتمعية؛ فأخذت المبادرة واقتربت منه لتزيل الإبهام الذي علق في ذهنها حول مراقبته لها ومن مكان محدّد وفي زمن يبدأ مساءً، إذ لا يبارح مكانه إلا عند ساعات الصباح الأولى حيث يذهب إلى عمله. تراه خلال عودتها من عملها فيثير وجوده الكثير من القلق والخوف عندها «وإذ بي أرى رجلًا وسيمًا أنيقًا، قاسي القسمات،….تقدمْتُ منه بقوة خفية لا أدرك حقيقتها وأسبابها، وأسئلة كثيرة تزدحم في رأسي تتصارع، ولا تتقاطع تحرّضها فضولية يقمعها حذر وخوف» (ص. 10).

 تكشف الرواية عن علاقة غامضة، ترافقها خطوات غير سهلة لنسج علاقة بين امرأة مثقفة ورجل موظف حزين قلق، يريد أن يضع قلقه وهواجسه بين يدي تلك المرأة من دون أن تعرف السبب في ذلك الاختيار. الحدس وحده في البداية هو الذي قاد العلاقة إلى الكثير من اللقاءات المؤلمة، وفي أحدها عرفت «ميس» أنّ «الهادي» يثِقُ بها ويَطمئِن إليها فهيحسب تعبيره –  تلك السيدة الرّصينة المتعلّمة الكاتبة لعلّها تستطيع أن تساعده في الكشف عن مصير ابنه الذي فقده خلال إحدى جولات القصف الصهيوني على لبنان فيقول: «هجرتُ الجنوب بعد استشهاد مريم وأمي وأولادي، وغيّرت مكان إقامتي في بيروت، خوفًا من أن يسرق عمي يوسف» (ص. 116) وهو ابني الوحيد الذي بقي لي بعد أن خسرت كل عائلتي، إنّه سلواي وأنسي في مصيبتي التي ألمّت بي.

على المستوى الاجتماعي يتبدّى الخوف والقلق على مصير هذا الطفل وعلى ذكريات الوالد مع عائلة مسحتها الحرب من الوجود من غير رحمة أو رأفة، ومع الأيام يغير «الهادي» مكان عمله ولم يعُد إلى زيارة الأصدقاء خوفًا من انكشاف أمره، والتعرّف بابنه واختطافه منه من قبل أهل زوجته.

لم يكن «الهادي» يدرك أنّ القدر والصهاينة كانوا له بالمرصاد، وأنَّى لإنسان يعيش حياة مملوءة بالقلق الدائم على المصير من أن يفكّر في مستقبل الأيام. إذ يُشلّ العقلُ في هذه اللحظات عن قراءة الحدس؛ وتَوقّع ما يمكن أن يجري في قابل الأيام ويتابع فيقول «لا أدرييا ميس.. لا أدريكل ما أعلمه أنني سمعتُ دويًّا، نظرت فلم أجد يوسف بجانبي، نزلت من السيارة لأبحث عنه، والدّماء تسيل من كتفي، أسرع مقاتلون لبنانيون إلى نقلي إلى المستشفى، وأنا في حالة أقرب إلى الموت» (ص. 116) ومنذ ذلك الوقت وأنا أقف كالمتشردين في هذه الزواية لعلني ألقاه حيث فقدته.

تفصح «ميس» عن علاقة متينة تربطها بأخيها المسافر، فهي تخاف عليه من نسمة الهواء وتتواصل معه عبر الهاتف لتطمئن إلى صحته بين فينة وأخرى،» إنّه أخي على الجانب الآخر يخبرني أنّه سيصل ليلاً إلى مطار بيروت» (ص. 14) سرّها الخبر كثيرًا وراحت تتحضر لهذا اللقاء؛ وهي إذ تتلهف إلى لقائه بعد غياب طويل فرضته ظروف الحرب.

تشير «ميس» في المقلب الثاني إلى قلق من نوع آخر. وهو ذلك القلق الناشئ من علاقتها بزوج أخيها إذ لم تكن على ما يرام، فهي متسلّطة، تنشغل في خلق المشاكل مع زوجها ولأتفه الأسباب، ولكن هذا الأمر لم يفسد علاقتها بأبنائه على الرغم من أن اللقاءات بينهم كانت متباعدة بسبب وجود عائلة أخيها في إحدى الدول الخليجية، «قررتُ الاتصال بزوجه، وأنا أعلم أنّها لا تحبُّ سماع صوتي» (ص. 33) وهي إذ توضح في هذا السياق أنّها كانت مجبرة على القيام بهذه الخطوة وقد عرفت بمرض أخيها وغادر البلد إلى أميركا ليجري عملية، ولم يخبرها بذلك كي لا تشعر بالقلق تجاه حالته الصّحية، حاولت الاتصال به، لكنها لم تفلح، لجأت إلى الدّعاء له أولاً؛ ومن ثَمَّ راحت تصلّي لأجله، ولأجل أن يمنحه الله العافية ويعيده إليها سالمًا معافى، لعلها في ذلك تعيد بعض الهدوء إلى ذاتها إلا أنّ «الصلاة لم تردع خلايا الدّموع من أن تسكب فيض الحزن الممزوج بالاطمئنان والقلق» (ص. 36). هي اطمأنت إلى حدّ ما إلى نجاح العملية لكن الخوف عندها متأتٍ من مُضَاعفات قد تحصل.

وعلى الرّغم من السوداوية والخوف اللذين يخيمان على الرّواية إلا أنّ الكاتبة لم تكن دوغمائية في حكمها؛ إذ إنّها فتحت الباب للأمل؛ كي يدخل إلى أنفسنا، وكأنّها تحضرنا لنهاية سعيدة تخلص إليها في عملها «كانت الرّحلة إلى هيوستن ممتعة بالنسبة إليّ» (ص. 168) وتعرفت في الطائرة بسيدة أميركية كانت غاية في اللطف، ولم تنتهِ الرّحلة إلا وقد اتفقنا على التواصل، وعرضت أن تصحبني إلى الأسواق لشراء الحاجيّات والتعرّف بالأماكن أكثر.

تريد الكاتبة أن تتعرّف إلى ماضي تلك العائلة، وأن تسمع أخبارًا عن تلك الأم التي ربّت ابنها على فعل الخير من دون النظر إلى الانتماء الدّينيّ أو المذهبيّ، تحاول أن  تبعد منا هذا الشبح الذي شربنا من كأسه المُرّة  لسنوات وسنوات، تدعو إلى أن نحمل الإنسانية نبراسًا يقودنا نحو الخير، وأن تسيّر حياة الناس على الهُدى والإخاء، فحسب رأيها هي الشكل الأفضل ليعيش العالم في ظله بسلام بعيدًا من التقاتل والتناحر الأمميّ الدّيني والسياسي، هي ترفض أن يكون الدّين «أفيون الشعوب»، كما يقولون فالأديان كلّها تتلاقى عند التّسامح والمحبة والأخوة، وما يجري ليس إلا انتهاز للدّين لتسيير القضايا الاجتماعية وإحكام السيطرة الاقتصادية والتجارية والسياسية على شعوب المنطقة.

كانت «سارة» تستصحب ابنها إلى المطاعم اللبنانية في أميركا، فهي لم تكن تريد أن تقطع حبل العلاقة بينه وبين جذوره. وحدها كانت تعرف الحقيقة، ولم تخبره بها إلا بعد أن قطع عهدًا لها ألا يتركها «هل تَعِدني بألا تتخلّى عني، عشتُ حياتي أخفي قلقًا من مجيء هذا اليوم» (ص. 177). أخبرته أنّه ابنها بالتبنّي وأن جذوره لبنانية، وتوقفت عند هذا الحدّ من القصّة، ما جعله يرجوها أنّ تخبره الحقيقة كاملةً «أرجوك، من أنا؟ ما هو اسمي الحقيقي؟ من هو أبي؟ من هي أمي؟» (ص. 177) فتجيبه «أنا لا أعرف يا بني، ولكن اسمح لي أن أخبرك القصّة بالتفصيل» (ص. 177) فعلتْ هذا تحت ضغط نفسي مؤلم، وقد حاولت كثيرًا أن تهرب من هذا الموقف عاشت حياة مملوءة بالوهم والخوف، ولكن لا مفرّ من القدر. إذ لم تشأ أن تغادر هذا الحياة من دون أن تترك أثرًا طيبًا حتى بعد وفاتها. وهنا ينتهي القلق الذي رافق هذا الشاب لحقبة غير قصيرة من عمره، وقد جاءت «ميس» لتضع حداً لهذا القلق وهذا الخوف بخلفيتها الإنسانية تعمل على إقفال باب القلق وفتح باب الهدوء والاطمئنان.

وهكذا سارت الأمور، فلا تترك «ميس» أميركا إلا وهي على يقين بأنّها ستُدخل إلى قلب «الهادي» السعادة وستُرشده إلى ولده المفقود، تريد أن تنهي حيرته وقلقه، وخوفه وأن تضع حدّا للتشرد الذي يعاني منه منذ زمن بعيد.

لا تحمل معها في طريق العودة من أميركا إلا هديّةً واحدة «وهي مجموعة من الصور لها ولصموئيل في بعض المناطق الأميركية تؤرخ ذكرى هذا اللقاء، بالإضافة إلى أوراق تشير إلى تحاليل مخبرية أجراها بناء لطلبها، كما أجراها صموئيل أيضَا تريد أن تقطع الشك باليقين. حين عادت إلى لبنان أرادت أن تعزز يقينها بموقف صار أقرب إلى الحقيقة، فطلبت أن تلتقي «بالهادي» كالعادة وفي أي مكان يختاره، وهناك أخذت منه صورًا لابنه «يوسف» واستعانت بابنة إحدى صديقاتها لترسلها إلى «صموئيل» في محاولة منها لتقريب المسافات وتحدّي الأزمات التي يمكن أن تعصف بكيان الإنسان الضعيف الذي لا يتحلى بالقوة في المواقف الإنسانيّة الصعبة، وفي لقاء آخر تذرّعت بألم في رأسها، فأفرغت محتوى حقيبتها لتحصل على حبة مُسَكِنٍ وهنا كانت المفاجأة الأولى، إذ تركتْ صورة صموئيل وسارة ظاهرة  فوق كومة من الأوراق التي امتلأت بها حقيبتها، فسألها: « – لمن هذه الصور يا ميس؟

صورة صديقتي وابنها.

هذا يوسف يا ميس، هذا هو ابني. مَن هي صديقتك هذه؟ (ص. 239) دهمته الحقيقة وراح يتلو الأسئلة واحدًا تلو الآخر، لقد صدق حدسه فعلى يديها سيصل إلى برّ الأمان، وحدها ستستطيع أن تجمعه بابنه، حاولت أن تهدئ روعه تارة، وأن تشكّكه بقوله ثانية ولكن عاطفة الأبوة كانت هي الغالبة، فطلب منها دعوة صديقتها وابنها إلى زيارة لبنان.

وهنا يأتي دور المفاجأة الثانية، فحين يصل «صموئيل» إلى لبنان وعلى أرض المطار لاحظت على وجهه مشاعر متناقضة ما جعلها تتنبه إلى الأمر وتسأله « – ما بك يابني؟ هل من مشكل؟

لكم راودتني نفسي أن أنحني، وأقبّل أرض المطار, ولكنني واثق من أنّ عيونًا تراقبني ولا أريد أن اُقتل نفسي بيدي.

ماذا تقصد؟

أنا مضطر أن أعود إلى أميركا، وأخاف أن يقتلني المتطرفون اليهود إذا عرفوا حقيقتي.

وهل عرفتها يا صموئيل؟

أرجوك نادني يوسف، لقد اشتاقت أذني إلى هذا الاسم الحبيب» (ص. 253) . إذًا، يفاجئ «يوسف» ميس «بالحقيقة وقد جاء ليرى والده الذي حُرِم منه أعوامًا وفي اللحظة الحرجة المشحونة بالعواطف الفياضة يقول الهادي:

 أنت يوسف، نعم أنت يوسف. …… أنت ولدي الحبيب.

أبي أنا محتاج إليك فكن قويًّا. الله معنا، لا تضعف. سيكون كل شيء على أن ترى النور لولا إلحاح الوالد على علاقته بالأستاذة الجامعيّة.

ويقفل الخوف أبوابه ، ولا يعود إلى أي من شخصيات الرّواية سواء أكانت امرأة مثقفة أو غير مثقفة، رجل شاب يافع يعمل على بناء مستقبله، أو والد قضى نصف عمره في البحث عن الأمان والاطمئنان إلى مستقبل ولده، فالقدر لا يفرق بين البشر هو مكتوب ويجب أن تراه العين.

«جمرات من ثلج» رواية تحِكُ المشاعر الإنسانيّة بكثير من الصدق، والإحساس المرهف، وتسلط الضوء على الحروب ومآسيها، تدفعك لأن تنبذ العنف، وتقول إن الخوف ناجم عن قلق الإنسان على انتمائه الوطني والاجتماعي والإنساني أيضَاً.

 

*أستاذة في الجامعة اللبنانية كلية الآداب والعلوم الإنسانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى