أولى

أزمة لبنان…
بين الحلول والأثمان

 خالد الرواس _

يتساءل المرء أحياناً عن كيفية خروج لبنان من أزماته، في وقت أظهر فيه مسؤولوه، على مر العقود، نموذجاً فريداً عن سوء إدارتهم لبلدهم، بابتعادهم عن الهوية الوطنية، وتمسكهم بفكر فئوي مصلحي ضيق، طالما شكّل عبئاً ثقيلاً على تقدّم البلد وتطوّره، حتى أوصلوه الى درجة شبه الإفلاس، على الصعد كافة، في وقت بقيت فيه العناوين المطروحة، في شتى المجالات، السياسية والتنموية، مجرد شعارات، غير قابلة للتطبيق، عن قصد أو عن غير قصد، وبالتالي فإنّ مجمل المواقف والردود السياسية اليومية المتداولة، في السر والعلن، لن تؤثر في تسريع عجلة الحلول، أو أن تكون على الأقلّ مدخلاً لأيّ حلّ، لكون لبنان يتأثر أصلاً بنتائج ما يدور حوله من أحداث، فيرى نفسه عفواً معنياً فيها، كلياً أو جزئياً، من دون أن يضع أيّ خطط مرحلية للتعامل معها، ومن دون أن يؤمّن لها أيّ تفاهمات داخلية او خارجية، تعزز مناعته تجاهها، فيجد نفسه منزلِقاً فيها، غارقاً في تفاصيلها، لا يقوى على فرض رؤيته بخصوصها تجاه أيّ كان، لمنع تداعياتها وانعكاساتها السلبية عليه، الأمر الذي يعود ليرتدّ في ساحته الداخلية، على شكل تجاذبات ونقاشات وتحديات ومزايدات متبادلة بين مكوناته السياسية، تأخذ من رصيده السياسي وتقلل من قدرته في إحراز أيّ تقدّم، أو النجاح في أيّ مواجهة.

 واذا كان البعض يرى في لبنان بلداً قوياً، فهذه نصف الحقيقة، لأنّ عامل القوة يلزمه وحدة وطنية لا تزال غير متوفرة، تبدأ مع وحدة القرار السياسي المؤسساتي الشامل، معزَّزاً بخطط اقتصادية اجتماعية ذات مؤشرات تنموية مضمونة، لدعم صموده بوجه مختلف الصعوبات، وصولاً الى الانفتاح الإيجابي على جميع أصدقاء لبنان وأشقائه، لنسج تحالفات سياسية اقتصادية، عربية وأجنبية، تكون داعمة للموقف السياسي اللبناني، بما يعزز عوامل القوة ويجعل البلد جاهزاً ومتأهّباً لخوض التحديات، هذا بالمبدأ، لكن في الواقع، فإنّ الخارج يرانا ضعفاء ومقسَّمين، يتعاطى معنا بالمفرّق، لإدراكه بأنّ لبنان هو بلدتعايشمشتّت، ذات دولة غائبة أو مغيّبة لا فرق، وبعدالة منكسرة، أضحى ترميمه وطنياً شبه مستحيل ما لم يحصل من داخله، وهذا المشهد لن يغيّره حفنة من الانتفاعيين، استخدموا السلطة، وحققوا مكاسب وامتيازات فئوية ضخمة على حساب المصالح الوطنية العليا ومصالح المواطنين، كلفت اللبنانين أثماناً باهظة، فخدموا أعداء لبنان وفي مقدّمهمإسرائيل، عن قصد أو عن غير قصد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنّ الاختلاف الأساسي والعميق الحاصل بين القوى والمكوّنات السياسية، ينطلق من الخلاف الحادّ حول دور لبنان وهويته، لكونه اختلافاً يطال لبّ النزاع وجوهره، ولكونه ينسحب أيضاً على مسائل خلافية مرتبطة بالقرار السياسي، كمسألة الحرب والسلم، والحياد، وتسليح الجيش، وإسقاط منظومة الفساد، بما في ذلك محاسبة الفاسدين واسترداد الأموال المنهوبة والمهرّبة، ناهيك عن مشروع تطوير أو تعديل أو تغيير النظام السياسي القائم، والجدوى من مشروع المقاومة، نتيجة التساؤلات التي يطرحها البعض عن دورها في مسألتَي الاقتصاد والانماء، الى جانب دورها الجهادي، على أهميته، انطلاقاً من كونها مكوّن لبناني مسؤول وشريك فاعل في الساحة الداخلية، لا ينحصر دورها في الشأن السياسي، في ظلّ الأزمة الاقتصادية الاجتماعية المالية الخانقة التي يعيشها اللبنانيون على وقع العقوبات الدولية على بلدهم، والتي تؤثر بشكل مباشر على صمودهم، تجاه كلّ التحديات والصعوبات التي يمرّون بها، كلها مسائل ومواضيعدسمةمن المستحيل الاتفاق بخصوصها بين المكونات السياسية الحالية أو إيجاد مخارج لها، لكن يبقى الأمل مبنياً على الجلوس والتفاهم حولها، الأمر غير المرجح حصوله حتى الساعة.

 فالأفكار التي تطرحها مختلف القوى السياسية التي تعاقبت على السلطة، بشكل متكرّر، على أنها تهدف الى التقارب والتفاهم لإيجاد قواسم مشتركة في إدارة الدولة وسياستها، تبقى أفكار نظرية، لا قيمة عملية لها، وتشكل مضيعة للوقت، وهي غير الأفكار التي من شأنها ان تنقل لبنان الى برّ الأمان، فالأولى يُطلَق عليها اسمتسويات، لكونها أفكاراً، سقفها التوافق على آليات وسبل لحفظ المكاسب الفئوية والامتيازات المذهبية في السلطة، وبالتالي تبقى لغواً وغير ذي فائدة وغير مضمونة النتائج لكونها لا تنتج حلولاً، أما الثانية فيُطلَق عليها اسمالبرنامج الوطني الموحد، القائم على ثوابت ورؤى موحدة يلتزم بها اللبنانيون، من أعلى الهرم لأسفله، كمفهوم ثابت لدور وهوية لبنان، يعمل الجميع على تطبيقه، بدءاً من تطبيقاتفاق الطائف، من دون حذوفات وتحريف وتشويه معاني، بما يشكل مدخلاً ملائماً لعملية التغيير، والانتقال الى حالة الاستقرار السياسي، الكفيلة بتصحيح باقي المسارات بما في ذلك سبل مواجهة التحديات، وطنياً، على المستويات كافة، والتي طالما انتظرها اللبنانيون.

 لقد أثبتت التجربة في لبنان، بأنّ الطائفية السياسية أوجدت نظاماً سياسياً متخلفاً، وأنّ الفئوية السياسية أنتجت كياناً ضعيفاً منقسماً على ذاته، بدءاً من بنية النظام ليصل الى طبقات المجتمع، بما جعل الولاء الطائفي أقوى من الولاء الوطني، الركيزة الأساسية للمواطنة، التي يجب أن يحميها ويصونها نظام مدني يؤمّن المساواة بين جميع المواطنين في الأحكام التي ترعى شؤونهم، نظام مبني على ديمقراطية حقيقية، يعتمد الكفاءة في التوظيفات العامة، خلافاً لما حصل من توظيفات عشوائية وزبائنية لأسباب انتخابية وفئوية ضيقة، ساهمت في هدر المال العام والى تقليص الخدمات على المواطنين لعدم الكفاية، نظام يحترم ويطبّق الدستور والقوانين، يعمل على تغليب الشعور الوطني على الشعور الطائفي، ومصلحة الوطن على أيّ مصالح أخرى، نظام يعطي نموذجاً حياً عن إمكانية التعايش بين مختلف الأديان التي تخضع حصراً لحرية الفرد وإيمانه بمعتقده،عمودياً، والى صون الأديان واحترامها في مجتمع تعدّدي من ضمن دولة مدنية، تعزيزاً للهوية الوطنية، يتساوى الجميع فيها تحت سقف القانون،أفقياً”.

 من هنا تبدأ الحلول في مسار التغيير الحقيقي، وللحديث في هذا المجال تتمة

*مهندس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى