مقالات وآراء

«صفقة القرن» وتحديات الأمن القومي

 

} د. لور أبي خليل*

في بداية القرن العشرين أطلق تيودور هرتزل مشروعه العنصري الاستعماري الاحتلالي واضعاً استراتيجية لـ «تغيير التركيبة الجغرافية والاقتصادية والاجتماعية» في المشرق العربي، كمقدّمة لقيام كيان اغتصابي على أرض فلسطين.

الدول العربية كافة أعلنت انخراطها في مواجهة استراتيجية هرتزل، ووجهت بوصلتها لدعم فلسطين، فأصبح الدفاع عن المسألة الفلسطينية نهجاً راسخاً في مواقف وأجندات الدول العربية. ووقتذاك لم تكن الحركة الصهيونية قادرة على تحقيق اختراق بسبب وحدة الموقف العربي الذي أظهر تماسكاً وصلابة في مناصرة فلسطين. لذلك سعت الحركة الصهيونية للحصول على دعم الدول الغربية لا سيما الولايات المتحدة الأميركية التي شكلت حاضنة للمشروع الصهيوني الاستعماري. وبقيت هذه المعادلة ثابتة حتى جاءت صفقة القرن بمشروعها التنفيذي لتصفية المسألة الفلسطينية، بعد أن أدركت الحركة الصهيونية انها لا تستطيع تحقيق هدفها المباشر الذي انطلقت منه أساساً عند إنشائها الكيان الغاصب من دون أن تحقق خرقاً في العالم العربي، بوضع بعض دوله في ضفة العدو، وإدخال هذه الدول في المعادلة المبنية على اعتبار الكيان الغاصب شريكاً استراتيجياً وحليفاً في مواجهة إيران. لقد لبّى قسم من الدول العربية مطامح العدو الصهيوني الذي أطلق على مشروع «الشرق الأوسط الجديد»، ووُضعت له آلية تنفيذية عرفت بـ «صفقة القرن» وبدأت الحركة الصهيونية بإنشاء محور شرق أوسطي جديد تكون فيه «إسرئيل» في مركز الصدارة ولكن بأدوات مختلفة عن السابق، بإضافة أدوات مساندة عربية  للعدو الصهيوني إضافة إلى الإسناد الغربي.

وعليه، فإنّ «صفقة القرن» شكلت تهديداً مباشراً للأمن القومي في المشرق العربي، وهذا التهديد لا يأتي فقط من العدو الصهيوني ولكن أيضاً من الدول العربية التي قبلت بالتطبيع وبمفاعيله. وهذا تتويج للمخططات التنفيذية التي بدأت مع هرتزل والتي تظهر ملامحها ببعض الطروحات المعلنة والغير المعلنة في صفقة القرن وأبرزها:

إنهاء ملف اللاجئين من خلال تقديم وصفة التوطين، والعمل على التهجير الجماعي عبر الاستمرار في بناء المستوطنات امام اعين المجتمع الدولي الذي لا يحرك ساكناً.

الذهاب الى التطبيع العلني وإقامة علاقات وأحلاف وشراكات مع عدد من الدول العربية وهذا يرمي الى تعميم ثقافة التطبيع ومحاولة النيل من إرادة المواجهة الفعّالة ضدّ الكيان المغتصب لأرضنا وحقنا. وقد استمكلت هذه الأدوات التنفيذية بالحملات الإعلامية والإعلانية الهادفة لنشر «ثقافة الاعتدال» واعتبار إيران العدو البديل الذي يُفترض مواجهته، والقيام بمحاولة لإنهاء ملفّ الطاقة.

وبالرغم من أنّ بعضاً من هذه الأدوات هي قيد التنفيذ إلا انّ الخطوات التطبيقية حتى الآن هي أحادية التنفيذ بين العدو وبين بعض القادة العرب اذ انّ الشعوب العربية والمثقفين الوطنيين لم يقبلوا بهذه الصفقة بل وأكثر من ذلك فهم يسعون الى مواجهتها عبر تشكيل هيئات ولجان وحملات أكاديمية وثقافية. تجدر الإشارة إلى أنّ الشروط التي وُضعت لهذه الصفقة التنفيذية هي شروط تعجيزية لأنها مرتكزة على مبدأ القوة وعلى سياسة الأمر الواقع ولأنها تحتوي على مخالفات جسيمة لأحكام القانون الدولي الإنساني وللقانون الدولي لحقوق الإنسان وللقانون الجنائي الدولي وهي أيضاً مخالفة لقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة ولقرارات مجلس الأمن ولمحكمة العدل الدولية وهذه الصفقة ليست فقط اعتداءعلى فلسطين بل على كافة دول المنطقة

كيف ذلك؟

بالنسبة الى فلسطين فـ «صفقة القرن» تهدف الى تقليص الدعم الأميركي لـ «الأونروا» والسعي لإغلاقها، والى إسقاط صفة لاجئ عن ملايين الفلسطينيين.

أما بالنسبة الى لبنان فنرى ممارسة الضغط على حزب الله عبر العقوبات المالية والضغوطات الاقتصادية التي طالت كلّ لبنان، وبدأنا نسمع بعض الأصوات الغير المعترضة على التطبيع إذا كان هو «الحلّ» للأزمة اللبنانية الحالية.

اما بالنسبة الى سورية والعراق فـ «صفقة القرن» سوف تكون بداية لتنفيذ مخطط هرتزل وهو تغيير التركيبة الجغرافية والاقتصادية والاجتماعية والبدء بتقسيم المشرق العربي الى دويلات طائفية متناحرة.

انّ مواجهة هذا العدو ومواجهة «صفقة القرن» ليست بالأمر العسير، لأنّ الحامي الأساسي للكيان الصهيوني وأقصد الولايات المتحدة لم تعد تتمتع بنفس المركز الدولي كقوة عظمى. فالمواجهة في هذه الظروف مؤاتية وهي تتمّ عبر البدء ببناء قوة ثقافية وأكاديمية تسعى للقيام بحملات توعية شعبية للمخاطر التي تنتظر المنطقة إذا تمّ تطبيق «صفقة القرن».

وبما أنّ التحدي يطال المجموعة الإقليمية المشرقية فلا بدّ من أنّ بناء الاستراتيجيات يفترض به ان يستند إلى نظريات ثابتة موافق عليها من كافة النخب العربية ليأتي الحلّ فاعلاً ومستداماً. ويجب تضع هذه الاستراتيجيات برامج ومشاريع جديدة للتصدي لـ «صفقة القرن».

انّ المقوم الأساسي في عملية حماية أمننا القومي يبدأ بتحصين وتعزيز المقاومة من جهة وبتفعيل دور النخب الثقافية من جهة أخرى. أيّ الجمع بين القدرات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية وبين السياسة الدفاعية. لأنّ «صفقة القرن» تشكل خطراً على أمننا القومي تواجه بالتوازي بين القوة والقدرة. فأنطون سعاده يقول: «إنّ سرّ النجاح ليس في النظام بل في القوة التي تحرك النظام».

*أستاذة محاضرة في كلية الحقوق والعلوم السياسية ومعهد العلوم الاجتماعية، الجامعة اللبنانية، باحثة وخبيرة في شؤون مكافحة الفساد ورسم السياسات العامة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى