الوطن

كيف تتحوّل الاستدعاءات القضائيّة إلى فتحٍ لملف الفساد السياسيّ؟

} د. وفيق إبراهيم

الانتقال من مرحلة معاقبة فاسدين من قيادات سياسية وعسكرية سابقة أو من فئة سياسيين من الصف الثاني تخلّت عنهم أحزابهم، لا يعني أبداً مباشرة الدولة بمعالجة أخطر ملف مسؤول بشكل شبه كامل عن الانهيار الاقتصادي الحالي.

هذه البداية تحتمل وجهات متعدّدة. فعلى سبيل الافتراض الحسن يمكن اعتبار هذه الاستدعاءات المرحلة الاولى من خطة تريد المعالجة المتدرجة لملف الفساد. وقد توحي بأنها ليست أكثر من حركة صغيرة ماكرة لامتصاص النقمة الساخطة على الطبقة السياسيّة.

هذان الاحتمالان مقبولان لكن احتمال التحايل يرد بقوة على أذهان المتابعين لأن التاريخ لم يعرف طبقة سياسية انتحرت بيدها او تخلّت عن السلطة طوعاً.

فالتجارب السابقة تؤكد أن إسقاط الطبقات السياسية الفاسدة جرى في القرون الفائتة بالقوة، مخلياً الساح منذ منتصف القرن العشرين للتغيير بقوة الانتخابات الشعبية.

وبما أن التغيير بالقوة مستبعَد في لبنان الطوائفي الذي لم ينتج إلا مواطناً ملتحقاً بممثلي طائفته، تماماً كحال الانتخابات النيابية الطائفية بدورها التي لا تؤدي الى أي تغيير بقدر ما تعاود إنتاج المنظومة الطوائفيين نفسها إنما بوجوه متجدّدة تتنكر بمكياجات حديثة.

لذلك يجب البحث عن آليات ترغم هذه الاستدعاءات القضائية الى التحول وسيلة لفتح ملف الفساد السياسيّ الذي خنق لبنان مصرّاً على إزهاق ما تبقى من روح له.

أولاً يجب التوجّه الى تشكيل مرجعية شعبية من الجمعيات الحقيقية والأحزاب الوطنية المختبئة لأسباب مجهولة وبعض النواب من ذوي السمعة الجيدة في التصدّي للفساد، وأحزاب تقليدية محصورة ببعض أجنحتها النظيفة وصولاً الى قضاة نزيهين وإداريين غير مشبوهين، بوسعهم دعم هذا التجمع بأكبر كمية ممكنة من ملفات فساد حقيقية.

يجوز هنا الاستئناس أيضاً بآراء خبراء إداريين ومصرفيين يتّسمون بالنظافة، ولديهم الاستعداد بالتوجيه اللازم نحو أهداف حقيقية من ملفات فساد يقشعر لها الأبدان.

بأي حال، فإن على هذه المرجعيّة الشعبيّة أن ترمي جانباً أي ميل طائفي او مذهبي وسياسي وجهوي لأن الفساد لا دين له، بل يستخدم الدين للاحتماء به وتحقيق سرقات أكبر.

ما هي أهمية هذه المرجعية المقترحة؟

الميزة الأولى أنها لن تكون طائفية ومحسوبة على جهة مذهبية ما، فتحظى بالتالي بالسمة الوطنية. وهذا نادر في لبنان لكن العاملين لمصلحة الناس ينشدونه دائماً.

اما السمة الثانية فهي التعددية السياسية والشعبية والمهنية التي تحتوي على أن ما يتيح لها الاستحصال على أكبر قدر ممكن من معلومات عميقة عن مغاور الفساد السياسي.

لجهة السمة الثالثة، فهذه المرجعية تعرف بتمكن أن الفساد في لبنان سياسي مركزي ويتدحرج ليصبح إدارياً وأمنياً وتابعاً للجيش واقتصادياً وناهباً للمساعدات الخارجيّة والرشى السياسية الآتية من دول صديقة او على شكل إعانات وقروض.

هناك سمة رابعة، وهي ضرورة التعاون مع مؤسسات تلفزيونية هي في العمق مرتبطة بقوى داخلية او خارجية، لكن لديها المصلحة بالكشف عن فساد هذا المسؤول او ذاك.

ما يؤدي وعبر أقنية متنافسة عدة إلى تعميم ملفات الفساد المرتبطة بمعظم المسؤولين.

هذا الاستعداد يعطي الوقت لأكبر عملية تحشيد شعبية تحول الاستدعاءات القضائية المحدودة الى مشروع فعلي بالنيل من الفساد السياسي الفعلي، فكيف يمكن أن يكون وزير ما فاسداً وزعيمه ليس كذلك، وكيف يمكن لإداريين أن يتلاعبوا بصفقات في وزارات يديرها وزراء معروفون بألاعيبهم؟ وهذا ينطبق على مرحلة كاملة بدأت في 1990 ولما تنتهِ حتى الآن.

هل يمكن في هذا المجال الاستعانة بأطراف دوليّة تقدّم نفسها كأصدقاء على منوال الدور الفرنسي الحالي في لبنان؟

يجب في البداية التوضيح بأن أي مساعدة فرنسية لقوى شعبية لبنانية يجب أن يكون للدور الفرنسي نصيب خاص منها وإلا فما فائدة الأم الحنون؟

هناك جمعيات سياسية وإنسانية ترتبط بفرنسا وأخرى بالأميركيين، لكن هذا النوع من الآليات لا يمكن المراهنة عليه بل مجرد الاستفادة منه في التحاقه بالحركة الشعبية الكبرى.

هناك عناصر مناصرة للحركة الشعبية وهي التناحر بين بعض فئات النظام السياسي مع الأميركيين في موضوعي الكيان الإسرائيلي والخلاف على آبار الغاز على الحدود مع فلسطين المحتلة والعلاقة مع سورية سياسياً وجغرافياً وعلى مستوى إعادة نازحيها الى ديارهم.

هذا إلى جانب فئات أخرى من هذا النظام تتصارع في ما بينها لتعدد ارتباطاتها الخارجية مع السعودية وفرنسا والأميركيين انفسهم.

ان كل هذه التباينات تشجع على نمو تجمع شعبي فاعل يؤسس بالقوة لفتح ملف فساد لن تسمح تداعياته بنجاة أي قوة شاركت في السلطة منذ 1990 مهما قدمت نفسها على مستوى العفة والنزاهة.

هذا هو الجانب الذي يدفع الى التفاؤل مقابل جانب مظلم يرتبط بعدم تشكل القوة القائدة لهذا التشكيل الشعبي. فهي موجودة لكن النظام الطائفي عزلها من تسعينيات القرن الماضي مستولياً أيضاً على النقابات، فكيف يتحرك الجمهور من دون مركزية قائدة، لذلك فهذه دعوة للأحزاب الوطنية من السوري القومي الاجتماعي الى الشيوعي وكامل الأحزاب الوطنية والجمعيات والشخصيات السياسية والإعلاميّة والنقابية الوطنية، للاتفاق على مرجعية سياسية تتولى التحشيد في فرصة هي الأكثر تاريخية لوضع حد لمفاسد أسوأ نظام سياسي يعرفه الشرق الأوسط.

فهل هذا ممكن؟

الأجواء الاقتصادية والسياسية تشجع على القفز فوق الطائفي المعرقل نحو الوطني الإيجابي لإنقاذ لبنان مما تحيك له القوى الدولية التي تستفيد من نظامه السياسي الذي يساعد من حيث يدري على تدمير البلاد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى