أخيرة

«خلف الجدران.. تحت الشمس» محاكاة لواقع قابل للتشبيه!

} محمد رستم*

منذ البدء يحاول الكاتب جرّ قارئه إلى أماكن يريدها هو، وتلك وسيلة يبتدعها الكتاب المتمرّسون، تساعدهم على تعطيل زر التأويل لدى القارئ، لذلك تجد أن الكاتب في مطلع منجزه يستهل الحكي بعتبة عليا، وكما فعل الكاتب سامر الشمالي بقوله، إن روايتَه خياليّة، وإن إسقاطها على أية مرحلة أو جغرافيا معينة يضرّ بالعمل الأدبي بينما لو قارنا مقولاتها لوجدنا أنها تدحض كل ما قاله، (الجماهيريّة العظمى، زعيم الأمّة، الحزب الشعبي الثوري الديمقراطي) هذا عدا عن الملامح التي أعطاها لصفوان والتي تنطبق على (زعيم بعينه والذي سعى إلى أن يُسمّى ملك ملوك أفريقيا). لكن ومع كل هذا تجد أن غاية المنجز ليس التوثيق التاريخي لنمط سياسيّ في بقعة ما، إنما الغاية هي توصيف للمدى الذي يبلغه تغوُّل الهوَس الديكتاتوري لدى أي زعيم ويحيله إلى وحش. لذا فإن البطولة في المرويّة توصيف شامل لنمطيّة هذه الحالة..

ترمز دلالة عنوان رواية الشمالي ومن دون لبس «خلف الجدران.. تحت الشمس» المؤلف من مقطعين المقاربة بينهما مستحيلة، فالأول يشير لأماكن الاعتقال والثاني يدلّ على الحرية. من هذه المفارقة يحتدم الصراع الدراميّ في هذه المرويّة والذي ينطلق من أشدّ الأحياء فقراً وتعاسة، ومن اسفل السلّم الاجتماعي حيث قذارة السلوك اللاإنساني الذي حمل صفوان إلى كرسيّ الزعامة، فأمّه مومس ووالده حارس المقبرة سكّير نتِن كان يضاجع جثث الموتى من النساء وصفوان نفسه تعرّض للاغتصاب في صغره وعاش طفولة في المقبرة بلا أصدقاء وعندما كبر صار زبوناً للمباغي، فاغتنم فرصة الصراع بين الانقلابيين والسلطان وقفز إلى عرش الحكم من دون تردّد. وهو لا يملك أية مؤهلات، حيث صوّر الكاتب مرحلة صعوده إلى الكرسي باختلاق قصص ما من قارئ لم يعرفها في الواقع ولكن بأسلوبية شيقة..

أي جهد على غسل كل تاريخه الأسود بعيون من حوله هذا بغض النظر عن الاثمان، إذ إنه استطاع أن يُعيد صياغة واقع بلده على أنغام رغباته، ولأنه مجبول بصلصال النتانة كانت محفظة روحه حبلى بالتفاهة والشرور. فحين يغضب تتمرّد كل الوحوش المجنة في أعماقه فتأتي ردود أفعاله العبثيّة من أغوار جهنم، ويكون الحل بسفك المزيد من الدم (هولاكو حقيقيّ) فحالته المرضيّة وسلوكه الشاذ خلق حكائية شائقة في المروية. وهذا ما أتاح للكاتب أن يجعل من هذه الشخصية مركّبة، وقادر على تحويرها كما يشاء مستغلاً عقدة النقص لدى صفوان التي جعلته يعيش حالة الخوف والجنون إن صحّ المقال، لذلك جعل من القصر سجناً كبيراً له، ولكونه لا يثق بأحد فقد أجريت له عملية الزائدة الدوديّة من دون مخدر خوفاً من اغتياله، ولأنه وبطبيعة الحال أشدّ حذراً من عقعق فقد نجا من محاولات عدة لقتله، وبات يُفرغ شحنات الخوف لديه.

تكاثف الحدث الدرامي أضفى على العمل ديناميكية درامية وإثارة نفسية تتأجّج وتخبو على مدار الأحداث وبدت الشخصيات واضحة لا ينقصها عناصر التكامل والنضج لتحقيق مصداقية ووحدة التنامي الدرامي، إذ جاء الانسجام تامّاً بين الشخصيّة ومواقعها المتنوّعة، فبدا مهووساً يعاني من رهاب قهريّ (تجلّى بالكوابيس) فواجهه بمزيد من الغطرسة، والارتدادات العبثية السادية، وهتك أستار الإنسانيّة بمزيد من شلالات الدم، وحين عصا الملك عاد هزيلاً ضعيفاً بائساً قميئاً، إن هروبه المُذلّ مع أكياس القمامة وداخل صندوق النفايات هو في الحقيقة تجسيد صريح لأعماقه النتنة ولمدى وضاعته، كحالة تناسب هذا المريض النفسي وكأن الكاتب يقول:

هذا هو الديكتاتور القمامة. حتى أن حرّاسه قالوا له: إن لا مكان يناسب اختفاءه أكثر من مزرعة أبقار، فهي آمنة وكأنهم لا يرون فيه أكثر من ثور..

حتى حين قتله حارسه بمذراة في الزريبة دفنه فيها، وكأن الكاتب يشير إلى أن مكانه الطبيعي هنا، بل لعل جثته تلطّخ الزريبة بالنتانة. وكما أن كل القطط متشابهة اللون ليلاً كذلك الديكتاتوريات قديمها وحديثها (متديّنها وعلمانيّها). ولعل هذه هي مقولة المرويّة الأهم وصندوقها الأسود الّتي أكدت عليه شواغل الأديب.

فالوضع السياسيّ يتصدّر المتن الحكائي ويوجّه أحداث المرويّة، ولعل العمل يجنح نحو الرواية النفسيّة حيث ركّز الكاتب على العالم الداخلي للزعيم مُرجعاً كل تصرفاته لما ينتابه من حالة نفسيّة مردُّها جنون العظمة، هذا ونلحظ اهتمام الكاتب بأسماء الشخصيات لتأتي التسمية كهويّة على العمق النفسي للشخصية، فالمومس اسمها (عفاف) إشارة إلى دلالة عكسية للاسم، والمومس أم الزعيم هي (بهيرة) إشارة لجمالها وفتنتها وكنيتها (السعدية) والزعيم (صفوان) وصفوان أي الصخر إشارة إلى قوّته، وكنيته عشماوي/ الجلاد أو السيّاف.

منذ السطور الأولى يقع القارئ تحت تأثير سطوة اللغة السردية المتألقة ثم لا يلبث أن يُصاب بمسّ الحكاية، حيث يمتطي السارد أرجوحة السرد ذهاباً وإياباً في الزمن السرديّ ويلجأ إلى تكنيك الاسترجاع في بنية السرد التي تخلو من الجانب المضيء النظيف ذي البعد الرؤيويّ الذي يمكن أن يعلّق على مشجبه أمل الخلاص، كما نلحظ أن التخييل يضمحلّ وينحاز الموقف لصالح واقعيّة الصورة في الكثير من وصوفات المروية التي أتت خاتمتها مفتوحة.

 

* كاتب سوري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى