الوطن

قرض الفقراء: ما هكذا تورد الإبل يا نوّاب الشعب!

عدنان برجي*

«تعزيز شبكات الأمن الاجتماعي ودعم العائلات الأكثر فقراً» ذلك هو العنوان البرّاق للقرض المالي الذي يحاول البنك الدولي فرضه على لبنان، مستغلاً أزمته السيّاسية والاقتصادية والاجتماعية، وقيمته 246 مليون دولار، يتمّ تسديده خلال خمسة عشر عاماً.

أعتبره فرضاً، لأنّ البنك الدولي يتحكّم بشروط الصرف، والتوظيف، والمراقبة، وتحديد مصدر وكميّة، ونوعيّة لقمة الفقراء «منظمة الأغذية العالميّة»، وبجداول التوزيع، والمعلومات المجمّعة عن العائلات المستفيدة، ودخول البيوت ومعرفة أدقّ أسرارها، وتوظيف ذلك في مجالات لا نعلم عنها شيئاً.

قد يقول قائل، إنّ له الحق في ذلك لأنّ أجهزة الدولة اللبنانيّة وإداراتها يستشري فيها الفساد، وتعمّ المحسوبيّات، وتختلط المعايير. ذلك صحيح دون شكّ، لكن هل انّ ذلك جديد على إدارة البنك الدولي، وهي التي لديها إدارة فرعيّة مقيمة في لبنان؟ لماذا تمّ السماح في الماضي للحكومات الّلبنانيّة المتعاقبة ان تفعل ما تشاء، واليوم يسعى البنك الدولي والمؤسسات الدوليّة المشابهة للحلول مكان الحكومة؟

في استعراض سريع لتطوّر القروض للدولة الّلبنانية، وفق الأرقام الصادرة عن وزارة المال، يتبيّن انّ قيمة الديون على الدولة اللبنانية عام 1993، كانت بحدود 4,4 مليار دولار لكنها بالليرة اللبنانية. ايّ انّ قيمة الديون الخارجيّة كانت صفراً. وكانت نسبة الدين إلى الناتج المحلّي هي 47%.

بفضل السياسات «الرشيدة» و»الحكيمة» للحكومات، و»مراقبة» النوّاب الأكارم لها، وبفضل الدعم الدولي لهذه السياسات والحكومات، وفي مقدّمها البنك الدولي، ارتفع الدين العام بمعدل 3 مليار دولار سنويّاً بين عامي 1993 و2000، وبفضل مؤتمرات باريس 1 و 2 و 3 تضاعف الدين بالعملات الأجنبية ثلاثة أضعاف بين عامي 2000 و2005. (عام 2000 بلغ الدين بالعملات الأجنبية 7 مليار دولار وعام 2005 بلغ 19 مليار دولار، ثم قفز إلى 31 مليار دولار عام 2020). أما نسبة الدين العام إلى الناتج القومي فقد ارتفعت من 47% عام 1994 الى 150% عام 2000 وإلى اكثر من 180% حالياً. وتطوّرت نسبة خدمة الدين العام من 6% عام 1993 الى 16.7% عام 2000.

ألم يلاحظ البنك الدولي منذ ذلك الوقت فشل الحكومات، ومحسوبيّاتها، ومحاصصاتها، وفسادها؟ فلماذا استمرّ، وغيره، في تقديم القروض؟

أثناء تحرّك هيئة التنسيق النقابيّة لتعديل سلسلة الرتب والرواتب بعد تجميد الرواتب والأجور لمدة 20 عاماً، «عملاً بنصائح البنك الدولي وصندوق النقد الدولي»، زارنا، لِمرتّين، وفد من إدارة البنك الدولي في لبنان، محاولاً إقناعنا بالضغط على الحكومة لقبول قرض جديد، بهدف ريعيّ لا إنتاجيّ! ألا يدعو ذلك الى التساؤل عن الخلفيّات والأسباب والغايات؟ (كنتُ حاضراً في اللقاءين ورفضنا العرض بطبيعة الحال).

في العام 2001، وكانت كلفة خدمة الدين العام قد بلغت 89% من مجموع إيرادات الدولة الّلبنانية، بدأ مسلسل مؤتمرات باريس «الخيريّة»، وقد تعهّدت الحكومة آنذاك بما يلي: «تحديث الاقتصاد لتسهيل وتشجيع التجارة الدوليّة في سياق دمج لبنان في الاقتصاد العالمي (قيمة مضافة لهذا الاقتصاد بما لدينا من صناعة وزراعة وأبحاث علميّة!)، ما يخوّله الولوج الى أسواق عالميّة جديدة (لتصريف الإنتاج الصناعي والزراعي الفائض!)، وخلق الأطر المناسبة لاجتذاب الاستثمارات (فالكهرباء متوافرة والطرقات بأفضل حالاتها والبيئة نظيفة!)، بالإضافة الى توفير البيئة الملائمة التي تسمح للقطاع الخاص بالنموّ والازدهار (كبار المتموّلين هرّبوا أموالهم الى الخارج ونهبت المصارف جنى عمر اللبنانيّين في الداخل والخارج!)، والنهوض بالاقتصاد الوطني من خلال المحافظة على الاستقرار التشريعي (مجلس النواب لم يقفل أبوابه يوماً، والحكومات تتألف خلال أيام معدودة، والقضاء ينجز ملفّاته بسرعة وشفافيّة).

تُرى هل كان للبنك الدولي، ومن يقدّم القروض، مراجعات لمدى تطابق الوعود مع التنفيذ على الأرض؟ ولماذا استمرّت القروض، وتستمرّ، وما هي أهدافها؟ إنْ كان من أجل التنمية وتخفيف نسبة الفقراء فالعكس هو الذي تحقّق. وإنْ كان من أجل تدعيم الطبقة الحاكمة فذلك يعني أنّ البنك الدولي وأمثاله شركاء في الفساد والإفساد، وشركاء في وصول غالبيّة اللبنانيّين الى الفقر المدقع، فهل نصدّقه مجدّداً؟ هل نجرّب المُجرّب؟ هل نستمرّ نُلدغ من الجُحر مرّات ومرّات؟

بعد العام 2010، قدّمت وكالة التنمية الأميركية قرضاً، لوزارة التربية الوطنيّة والتعليم العالي قيمته 150 مليون دولار لتعزيز وتطوير التعليم الرسمي، تحت اسم «مدرستي»، وكان ذلك واحداً من قروض كثيرة أخرى فهل تمّ تعزيز هذا التعليم، وتطويره، وأصبح ملاذاً لطلّاب لبنان ومعلّميه؟ الجواب يعلمه الجميع.

بالعودة الى «قرض الفقراء»، ويا لَها من تسمية تذكّرنا بدعايات المصارف على لوحات الإعلانات قبل سنوات «قروض لتضخيم الشفاه والابتسامة الهوليوديّة، وللسياحة في الخارج»، مع علم هذه المصارف أنّ المستدين قد لا يملك إمكانيّة تسديد هذا القرض! ثم يتساءلون عن انهيار القطاع المصرفي؟»

هل بمثل هذه القروض ننتشل الفقراء ونقضي على الفقر؟ هل نعطي الصياد سمكة ليأكل يوماً، أم نزوّده بالصنّارة ليصطاد قوت عائلته كلّ يوم؟ دلّونا على مثل واحد في العالم، تمّ فيه التخفيف من نسبة الفقراء بإذلالهم من جهة «بطاقة الأكثر فقراً»، وبإعطائهم مبلغاً قليلاً من المال لفترة محدودة؟

ماليزيا مثلاً، خاضت تجربة مميزّة مع مهاتير محمد، وفي الصين تجربةٌ رائدة في محاربة الفقر، فقد كان يتمّ انتشال مليون فقير من الفقر كلّ شهر، وذلك بتوظيف الأموال في مشاريع إنتاجيّة يعمل فيها الفقراء ويكونون شركاء في ملكيّتها. ألم يكن أكثر فائدة لو أنّ المبلغ المرصود للقرض قد تمّ تخصيصه لبناء مشاريع إنتاجيّة في مناطق الفقراء، وتوفير وظائف لهم في هذه المشاريع؟ لماذا لا يتمّ إنشاء تعاونيّات زراعيّة، ومعامل تحويل صناعيّة، ويتكفّل البنك الدولي بتصدير هذا الإنتاج من خلال منظمّة الأغذية العالميّة بدل ان يشتري قوت الفقراء من الخارج؟

كنتُ آمل من النواب، الذين تباروا في جلسة الزجل المشتركة، ان تكون نقاشاتهم لتوظيف القرض في مشاريع إنتاجيّة تضمن ديمومة العمل للفقراء الذين تسبّبوا هم في فقرهم، بدل التلهّي بقشور التوظيف والاستثمار الانتخابيّين.

 

*مدير المركز الوطني للدراسات

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى