سعاده والحزب القوميّ… الشرف بعينه
محمد الجباوي*
أنطون سعاده، زعيم الفكرة النادرة والجريئة، ورائد الفكر الحضاري في عصره، وشهيد الحق. إذن، هو أمانة التاريخ فينا! فهو الذي تجرّد من الـ «أنا» والذات، ليذوب كله في الكلّ: الأمة (الهوية والقضية والإنسان).
في شخصه، استوى الباطن والظاهر، ومعه استقام العقل والإرادة والتضحية، حتى صار بيانه شاهداً على مَن بقي بعده.
فهل يكفي أن نعيد السؤال: كم وكيف انتمى سعاده وانتسب لشرف هذه الأمة… أم نبيّن: كم وكيف انتمت الأمة وانتسبت إليه، وكذلك نحن؟ لعلّ الإجابة في يقظة ضمير اللحظة بميزان الإنصاف (نحن في كفّة وحقيقة سعاده في الكفّة الأخرى).
«يحيا سعاده»؟
نعم! يستحق ذلك.
في حياته، وبعد استشهاده: يستحقّ ذلك.
انظر مثلاً، ذاك العمق الذي انطلق منه، في بعض جوانب شخصيته فهو قد قال: «قد تسقط أجسادنا، أما نفوسنا فقد فرضت حقيقتها على هذا الوجود ولن تزول». لتجد أنّ أنطون سعاده، قد ذهب لمحاكاة الأرض – ومن عليها، من بوابة السماء ومَن فيها، وكأنه تطلّع إلى قدسيّة أسباب الخلق والوجود، فعرف أنّ مبعث الروح الذي يسمو على المادة، لا موتَ فيه. وأنّ الفناء بحقيقة هذا الوجود العلويّ ترتقي مقاماته ومراتبه وحقيقته بارتقاء النفس (نوعاً وسلوكاً)، وأنّ تمظهر الإنسان بالكيان البشريّ السليم خصوصاً في جوهره، لا ينفكّ ارتباطاً عن صلاح النفس والعقل، وعن صحة الرؤية وسلامة الهدف. وهو أيضاً، أراد لتحدّي النفس والإرادة أن ينتصر كديمومة حقيقة هذا الوجود، بتأكيد قوله: «إني لا أريد انتصاراً بارداً هيّناً بدون حرب».
قوميّة أنطون سعاده، كانت حاجة ملحّة ومثّلت ضرورة، على امتداد لبنان والعالم العربي. فدليلنا إلى ذلك محطات خطرة من حق الأمة المسلوب:
– مخاض الثورة العربية (1915).
– استهداف وحدة العرب وقوتهم، عبر مؤامرة الجغرافيا والديموغرافيا بمبضع تقسيم مسموم في قلب سورية (1916).
– الوعد المشؤوم لـ «آرثر بلفور» (1917).
– وما لحق ذلك، من احتلال الصهاينة لفلسطين، ومن احتلال آخر اختبأ خلف عناوين الانتداب، وكذبة مساعدة شعوب بلاد الشام على نيل استقلالها…
ولادة سعاده، وبالتالي حزبه، كانت نعمة إنسانية استنهضت الهمم العزيزة في المنطقة، وكسرت قيد إذلال الأحرار، وأسّست مسبقاً بشائر هزيمة العدوان على الأمة بكلّ أشكاله.
أنت هنا، أمام أنموذج ومصداق لرجل أخاله استمدّ فكره من الضوء الكونيّ لمنظومة البشرية، بل وضروراتها وتفاعلاتها. ثمّ راح يُفلسِفها (علماً ومعرفة ونضالاً)، وينظمها على نحو أن تمسي برنامج الحضور الحيوي الفاعل في الحياة – لا الانقباض الإنساني المقيت أو المريض، وأصرّ أن يدفع بمبانيه الفكرية والعقائدية هذه إلى ميدان النضال الإنساني والمجتمعي والأممي (ليس بحثاً عن الحقيقة، فهي كانت إيماناً راسخاً لديه) بل سعياً لإحقاق الحق.
هذا الزعيم الذي كان خير خلف لخير سلف، عاش في رحم الصوت النقي، وكان الصدى الناصر لعذابات الأرض وأبنائها، فلا عثمنة ولا فرسنة ولا صهينة، نالت من وطنيته وعروبته… ولا إعرابٌ غربيٌّ أو استعرابٌ عربيٌّ منعه من أن يصير حزب القومية المطلقة، وحزب الاجتماعية الملتقية والمتقاطعة مع الأديان والطوائف والملل والشعوب… بعد أن يكون سوريّاً في الرحم الأكبر: فلا أوصاله تقطّعها جغرافيا مفروضة، ولا إنسانيته تقتلها أو تعيقها أقطار مستحدثة.
بل هو هو: أنطون سعاده – الزعيم والشهيد الحي، وهو هو: الحزب السوري القومي الاجتماعي – المقاوم، معاً، واجها الظلم والقتل… المؤامرات والاتهامات، وما سقطا، إنه الشرف بعينه!
نعم، رأيت نظيراً من هذا، في حقبات مرّت وأخرى لا تزال: (جمال عبد الناصر – حافظ الأسد – الإمام موسى الصدر – الإمام الخميني…) روعة التقاطع والتكامل في ما بينها، وبينهم، تبعث على الأمل وتجدّد الروح… وتنتصر للنفس الأعلى – خارج حطام الجسد والمادة، وخارج قطار الأعداء والعدوان.
في يوم ولادته، نحتاج إلى صوت سعاده وفكره، وإلى الرحم الحاضن للاستمرار وللبقاء. كما، وإلى صيغة ومنبر الوحدة بين أعضاء الجسد الواحد – حماية لهذه الروح وقدسيتها.
إنّ الحزب الذي استطاع التحرّر من سجن وخطيئة الطائفية – طوال مسيرته، لهو قادر اليوم على إهداء الزعيم في مولده ما ينزع طائفية الـ «أنا» فينا – أينما وجدت وأيّاً كنا، تلك التي تجرّد منها سعاده، فبقي حيّاً وأضحى فخراً.
*عضو المكتب السياسيّ في حركة أمل.