واشنطن قد تخسر السّباق مع روسيا والصّين في صناعة صواريخ أسرع من الصوت
د. منذر سليمان وجعفر الجعفري
منذ الأشهر الأولى لتسلم الرئيس دونالد ترامب مهامه، سرى قلق جدي في البنتاغون، وعلى أعلى مستويات القيادات الهرمية، منبعه تبلور القوة العسكرية الصاروخية لكلّ من الصين وروسيا بمعدلات سبقت فيها الولايات المتحدة، وذلك بإقرار مدير مختبرات البحث والتطوير في البنتاغون، ستيفن ووكر، معلناً أنّ الصين تخطت خصمها الأميركي “بنسبة مرتين أو ثلاث مرات”، ومطمئناً قادة الكونغرس، وخصوصاً صقور الحرب، إلى أنّ الجهود الأميركية الحثيثة ستفضي إلى إجراء أول تجربة “على صاروخ أسرع من سرعة الصوت قبل حلول العام 2020”.
مع حلول منتصف العام 2018، تداعى ثلاثة من كبار القيادات المدنية في البنتاغون إلى الكونغرس، في جلسة مشتركة شارك فيها وزير سلاح القوات البرية مارك أسبر، ووزير سلاح البحرية ريتشارد سبسنر، ووزيرة سلاح القوات الجوية هذر ويلسون، وأعلنوا العمل المشترك لتطوير “أسلحة فائقة السرعة وقادرة على اختراق أكثر نظم الدفاع الجوي العالمية تطوراً” (نشرة “ستارز آند سترايبس”، 25 تموز/ يوليو 2018).
تعود خطط البنتاغون في تصميم وإجراء التجارب على أسلحة “فائقة السرعة باستطاعتها التحليق بما يفوق 5 مرات سرعة الصوت، 5 ماخ، إلى نحو عقد من الزمن”، بحسب سجلات الجلسة المشتركة المشار إليها. وذهبت وزيرة القوات الجوية ويلسون إلى التعهّد أمام الكونغرس بأنّ نموذجها للتجارب سيكون جاهزاً “بين العام 2020 و 2021، وأنه سيحيل نظم الدفاع الجوي ضده إلى مهمة بالغة الصعوبة، وسيتميّز بدقة تصويب أفضل في المديات البعيدة”.
وصادق وزير الدفاع الأسبق، جيم ماتيس، على صرف نحو 257 مليون دولار من ميزانية العام 2019 على جهود البحث والتطوير للأسلحة السرع من الصوت، والتي نالت زيادات متتالية في الإنفاق بمعدلات عالية قاربت نحو مليار دولار منذ ذلك الوقت.
وحذّر رئيس القيادة العسكرية الأميركية للمحيط الهادئ (باكوم)، هاري هاريس، مراكز صنع القرار من تفوّق الصين في “تطوير أسلحة أسرع من الصوت”، مضيفاً “لقد تجاوزتنا بذلك. “نحن تأخرنا” (نشرة “ستارز آند سترايبس”، منصف شباط/ فبراير 2018).
وشاطره كبار القادة العسكريين الأميركيين، وخصوصاً أجهزة الاستخبارات العسكرية، الرأي والقلق من نجاح جهود روسيا “تطوير صاروخ يعمل بالطاقة النووية دون الصوتية، يمكنه التحليق حول الغلاف الجوي للأرض، والانقضاض للهجوم من اتجاهات غير متوقعة”، وأن روسيا “تجازف بحدود العلم (الفيزياء) والمعاهدات الدولية” لتطوير أسلحة جديدة. كان هذا السلاح يعتبر “غير مجدٍ”، بحسب التطور العلمي في بدايات القرن العشرين.
وقد صرّح رئيس قيادة القوات الفضائية الأميركية جون ريموند عن مدى القلق في هذا المجال في نيسان/ ابريل 2020، معتبراً أنّ “الصواريخ الروسية الاعتراضية والموجّهة إلى خارج الغلاف الجوي تمثل تحدياً للمصالح الأميركية في الفضاء الخارجي”، وموضحاً أنّ الصواريخ الروسية الجديدة تحلّق فوق الهدف لمدة زمنية مفتوحة قبل الانقضاض عليه، “بعكس الصواريخ الأخرى التي تملك فترة زمنية محددة”.
الردّ الأميركي على صواريخ الخصوم “فائقة السرعة” يتمركز في حثّ الخطى لإنتاج سلاح مماثل، رغم الفجوة التقنية بين الجانبين، واتخاذ خطوات آنية تتمثل في “نشر طبقة من أجهزة الاستشعار في الفضاء لرصد صواريخ العدو” تؤيدها الإدارة الراهنة، ما يتيح الفرصة لواشنطن “للتصدي للأجسام العدوة في الدقائق الأولى من تحليقها، والتي ما تزال المحركات فيها تتغذى بالاحتراق” (نشرة “ميليتاري تايمز”، 24 كانون الأول/ ديسمبر 2019).
تلقى البنتاغون نكسة قبل أيام معدودة في 6 نيسان/ ابريل الحالي، بإعلان سلاح الجو عن فشل تجربته الثانية لإطلاق صاروخ أسرع من الصوت، محمول على القاذفة الضخمة من طراز “بي-52” فوق أجواء المحيط الهادئ، للتيقن من “قدرة الصاروخ على الوصول إلى السرعات التشغيلية وجمع البيانات المهمة الأخرى”، بحسب بيان سلاح الجو، ومن ثم عودة القاذفة بحمولتها إلى قاعدة “إدواردز” الجوية في ولاية كاليفورنيا. وأقرّ عدد من الخبراء العسكريين بأنّ الجهود المبذولة للتوصل إلى نتائج سريعة قفزت عن المعايير المطلوبة في إجراء تجارب مكثفة على كلّ مراحل التطوير قبل الانطلاق.
كما أعلن البنتاغون في مرحلة سابقة عن خططه الطموحة لإجراء “نحو 40 تجربة” على صواريخ فائقة السرعة في السنوات الخمس المقبلة، مع علمه بعدم توفر ما يكفي من بُنى تحتية مهيأة لذلك في الوقت الراهن، مثل توفر “أنفاق رياح لقياس سرعات أعلى من سرعة الصوت”، وتقليصه المتعمّد لمديات التجارب الميدانية.
بالتزامن مع القلق الأميركي المعلن من تقدّم الخصوم، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 1 آذار/ مارس 2018 عن أسلحة جديدة “لا تقهر”، وعن دخول الصاروخ الباليستي “كينجال” (الخنجر) الخدمة، وهو يتميّز بسرعة فوق صوتية، ويطلق من الجو “لتدمير التحصينات الثابتة والمدمّرات وحاملات الطائرات”، وتصل سرعته إلى 10 أضعاف سرعة الصوت، ويحلّق في مسارٍ متعرّج يمكّنه من اختراق نظم “اصطياد الصواريخ”، بما فيها النظم الأميركية المتطورة من طراز “إيجيس”.
يحمل الصاروخ على متن المقاتلة الاعتراضية “ميغ 31” الأسرع من الصوت، التي ترتفع لملامسة سقف الغلاف الجوي إلى نحو 15 كلم. ومن هناك تطلق “الخنجر” الذي سيصل العاصمة الأميركية “في غضون 32 دقيقة”. في التفاصيل التقنية، أعلنت وزارة الدفاع الروسية انّ اعتماد المقاتلة “ميغ 31” جاء بعد نجاحها في تنفيذ “أكثر من 250 طلعة جوية لإتقان عمل الأنظمة الصاروخية”.
أعلنت روسيا مع أفول عام 2019 عن دخول “المقذوف الأسرع من الصوت – أفانغارد” الخدمة الفعلية، وهو يستطيع التحليق بسرعة أكبر بـ 20 مرة من سرعة الصوت (وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، 27 كانون الأول/ ديسمبر 2019). من خصائص المقذوف/ المركبة “أفانغارد” حمل رأس نووي محمول على صاروخ “سارمت” العابر للقارات، يمكنه المناورة والانعطاف، ما يعقّد جهود نظم الدفاع الجوي لاعتراضه والتصدي له بعد بلوغه سرعة قصوى تصل 20 ضعفاً من سرعة الصوت – 20 ماخ.
اللافت هنا سماح السلطات الروسية لخبراء أميركيين بفحص مقذوف “أفانغارد” في 26 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، اتساقاً مع المعايير المتفق عليها في معاهدة “ستارت الجديدة” في العام 2010، والتي سعت إلى تقليص عدد منصات إطلاق الصواريخ النووية الاستراتيجية (موقع محطة “بي بي سي”، 27 كانون الأول/ ديسمبر 2019).
تستند نظرية التفوق العسكري الأميركية إلى ترسانتها الضخمة من حاملات الطائرات والقطع البحرية الأخرى، والتي يعمل بعضها بالطاقة النووية المنتشرة في بحار الكون، مطمئنة إلى فعالية أسلحتها من صواريخ “كروز” وأخرى هائلة التدمير، لتشكّل “رادعاً للخصوم”. سلاح البحرية الأميركي يطمح إلى الإبقاء على 12 حاملة طائرات مزوّدة بالطاقة النووية في ترسانته، مقابل سفينة وحيدة لروسيا (نشرة “ميليتاري دوت كوم” الأميركية، 2021).
وقد أكّد ذلك رئيس القيادة الاستراتيجية الأميركية جون هايتن أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ مطلع العام 2019، قائلاً: “التهديد بالردّ هو أفضل خيار، وربما يكون الوحيد، لموازاة خطر الأسلحة الأسرع من الصوت”. واستطرد قائلاً: “لا نملك راهناً أيّ سلاح دفاعي من شأنه مضاهاة أو منع الخصم من نشر سلاح كهذا ضدّنا. وعليه، فإنّ ردّنا يكمن في قوتنا الردعية”.
اهتزت أركان نظرية التفوق العسكري وقائماتها، ليس لدخول صاروخ “أفانغارد” الروسي فحسب، بل أضيف إليه أيضاً صاروخ “زيركون” المجنح المضاد للسفن والأسرع من الصوت بـ 8 مرات (تشرين الأول/ أكتوبر 2020)، الذي صادف الإعلان عن نجاح تجربته بالتزامن مع “عيد ميلاد الرئيس بوتين الـ 68”. يطلق حلف الناتو على “زيركون” تسمية “ أس أس – أن – 33”.
تناولت الدورية العلمية الأميركية “بوبيولار ميكانيكس” مزايا هذا الصاروخ عندما كان في مرحلة التطوير، وقالت محذّرة: “لو استطاعت سفينة أميركية رصد تحليقه من مسافة بعيدة تبلغ 100 ميل، فلن يتوفر لديها سوى دقيقة واحد (60 ثانية) للتصرف حياله” (26 نيسان/ إبريل 2016).
وأضافت أنّ درّة الدفاع الجوي الأميركي، ممثلة بمنظومة “إيجيس”، تتطلّب من “8 – 10 ثوانٍ لاتخاذ قرار اعتراض الأجسام المهاجمة. في تلك الثواني الحساسة، سيكون الصاروخ الروسي “زيركون” قطع مسافة 20 كلم، والصواريخ المعترضة لا تحلق بسرعة كافية للحاق به”.
وتعرّضت النشرة العسكرية الأميركية “ميليتاري دوت كوم” للمسألة قائلة إنّ “زيركون 3 أم 22 الروسي يطير بسرعة عالية جداً بفعل وقود متطور، 6 ماخ، في مسار صاروخي هوائي متدنّ، يشكل الضغط الهوائي الناتج أمامه غيمة من البلازما قادرة على امتصاص الموجات الهوائية، ما يحيله إلى جسم غير مرئي على شاشات نظم الرادار” التقليدية المضادة للصواريخ (مقال بعنوان “لماذا لا يستطيع الرادار اكتشاف صواريخ روسيا الفرط صوتية؟”، 2021).
لو عاد المرء بضعة عقود إلى الوراء لتوصّل يقيناً إلى أنّ التقنية الصاروخية المذكورة لم تكن وليدة العقد الثاني من القرن العشرين، بل بدأ العمل بها خلال الحقبة النازية في الحرب العالمية الثانية. وتوصل العالم الألماني يوجين سانغر إلى تصميم مركبة تنزلق بسرعة تفوق سرعة الصوت، أطلق عليها إسم “سيلبرفوغل” أو “الطائر الفضي”، في مدار الأرض، باستطاعتها قصف أهداف في الولايات المتحدة انطلاقاً من أوروبا، وتتميّز بالإنزلاق السريع من المدار الخارجي والعودة إليه مرة أخرى أثناء التحليق، بسرعة قصوى تفوق سرعة الصوت بـ 17 مرة، 17 ماخ.
تصوّر التصميم الأولي لسانغر تحليق المركبة على مدى 19،000 إلى 24،000 كلم، ومكوثها فوق الهدف وقصفه بقنبلة تزن 8،800 رطل، والعودة إلى قواعد آمنة لدول الحلف في اليابان، استناداً إلى قانون الطاقة النسبية في الفيزياء: الطاقة = ضرب الكتلة في مربع سرعة الضوء. وما حال دون تحقيق سانغر رؤيته هو التطور البدائي للعلوم الطبيعية، وخصوصاً الفيزياء، في ذلك الزمن الغابر (نشرة “إيروسوسايتي دوت كوم”، 22 تشرين الأول/ اكتوبر 2019).
إنّ تطوّر التقنيات والعلوم الحديثة وفّر للأقمار الاصطناعية فرصة استشعار الهواء الساخن الناتج من انزلاق مركبة بسرعة تفوق سرعة الصوت عدة أضعاف. وتمتلك كلّ من الولايات المتحدة وروسيا نظم إنذار مبكر على متن الأقمار الاصطناعية، تستطيع رصد القوة الحرارية الهائلة الناجمة في مرحلتي احتراق وتزلج المركبة الحاملة للصاروخ خلال خط تحليقها في الفضاء الخارجي، لكن تقنية الرصد لا يواكبها توفر نظم دفاعية مضادة للصواريخ للتعامل مع تلك الأجسام الطائرة بسرعات فائقة.
في العصر الراهن، تنحصر جهود الولايات المتحدة في انتاج سلاح تقليدي أسرع من الصوت، وهي في سباق متسارع مع الصين وروسيا لإنتاج نموذج صالح لدخول الخدمة العسكرية في أقرب فرصة زمنية ممكنة. في المقابل، أدخلت روسيا صواريخ فائقة السرعة لأغراض استراتيجية، من مثل “أفانغارد” و “كينجال”، من شأنها أن تحلّ محلّ الصواريخ الباليستية بتقنيتها الراهنة.
أما الصين، بحسب البيانات العسكرية المتوفرة، فهي تعكف على إنتاج صواريخ أسرع 5 مرات من الصوت، ماخ-5، وبكلفة أقلّ، أطلقت عليها إسم جيل “أس أف-17”. ونظراً إلى تدني كلفة الانتاج مقارنة بالتقنية الأعلى، تستطيع الصين إطلاق سيل كبير منها في حالة الهجوم، بشكل يربك نظم الدفاع الجوية الأميركية، وخصوصاً تلك المتموضعة على السفن الحربية الحديثة.
تسير بريطانيا وفرنسا بالتوازي لإنتاج صواريخ فائقة السرعة، لاستبدال نظم “هاربون” و “اكسوسيت” تباعاً، ويتوقع دخولها الخدمة في العام 2030.