الوطن

جائحة الاقتصاد اللبناني – 19

} د. أحمد الزين

لا شكّ في أنّ تبعات كوفيد 19 قد شملت العالم كلّه، فلم تنج منها دولة، صغيرة كانت أم كبيرة، عظمى كانت أم نامية… لكن الثابت أيضاً أنّ هنالك دولاً شكّل فيها الوباء أكثر من جائحة… من هذه الدّول لبنان الّذي يستشعر مواطنوه بمأساة صارخة، فـ لكوفيد في ظلّ الأزمة الاقتصادية وعدم الاستقرار الحكومي والقيادة السياسية المهترئة، طعم آخر وتبعات لربّما لم يشهد مثلها بلد في العالم…

بطبيعة الحال فإنّ بلداً يتمتع بجمال طبيعي أخّاذ، وشعب متعلّم زاخر بالمواهب والطاقات على اختلافها ينبغي ألاّ يصل إلى ما وصل إليه من خسائر على المستويين الاجتماعي والاقتصادي…

انطلاقاً من ذلك فإنّني وللمرة الأولى سأشرك تجربتي الشخصية في مقالة علّها تكون جرس إنذار للآتي من الأيام.

منذ اللحظات الأولى لبدء تفشّي الوباء في لبنان بدأت عائلتي في اتخاذ الإجراءات الأساسية التي نصحت بها الحكومة اللبنانية وإرشادات منظمة الصحة العالمية. لقد شاهدنا العديد من الأشخاص يصابون بالفيروس. شُفي البعض، ومات آخرون، لكننا اعتقدنا أنّ عائلتنا آمنة لأنّنا التزمنا بالإجراءات والاحتياطات المطلوبة بشكل صارم.. انتشر الفيروس بلا هوادة في جميع أنحاء البلاد، وفي العاشر من كانون الثاني، طرق هذا الوحش بابنا، عبر العاملة المنزلية.. نُقلت والدتي إلى المستشفى وعلى مدى سبعة عشر يوماً، لم أتمكن من رؤيتها إلا مرة واحدة لمدة دقيقتين من خلف الزجاج!

ثم علمنا أنّ والدي وشقيقتيّ اصيبوا بالفيروس… حاربنا الفيروس معاً.. اعتصمنا بالصّبر والدّعاء والمعرفة.. لكنّه كان أقوى من كلّ ذلك فتوفيت الوالدة ثمّ لحق بها الوالد بعد عشرة أيام، في التّوقيت ذاته الحادية عشرة إلا ربعاً مساءً، ولم يكن يعلم أنّها قد سبقته إلى جوار الرحمن الرّحيم.

خلال عشرين يوماً، رأيت والدي مرتين من خلال شاشة المراقبة؛ مرة عند أخذ عينة الدم والمرة الثانية عندما فات الأوان. لحسن الحظ، شقيقتاي بصحة جيدة الآن وعادتا إلى حياتهما، لكن بقلوب مكسورة.

الموت حقيقة لا يمكننا تجنّبها ولكن فيروس كورونا أزال قدرتنا على أن نكون بجانب من نحبّهم عندما يتركوننا ونخبرهم كم نحبّهم.

تحدث مثل هذه القصص في جميع أنحاء العالم، لكن قلة من البلدان عرف أهلها معاناة مثل معاناتنا كلبنانيين… فإلى جانب الوباء أضنانا العجز الاقتصادي والاجتماعي… صحيح أنّ معظم الحكومات في العالم أعلنت عن مخاطر اقتصادية عميقة تحدق بها بسبب هذا الوباء القاتل.. وصحيح أيضاً أنّ الاقتصاد العالمي لم يكن يعمل بشكل جيد قبل انتشار الوباء، وأنّ الفيروس أضاف زخماً كبيراً للركود في الاقتصاد العالمي وحدّد نقاط الضعف التي كانت مخفية.. وصحيح كذلك أنّ المصاعب الاقتصادية والاضطرابات السياسية تلوح في الأفق في العديد من الدول.. حتى أقوى اقتصاد في العالم، الولايات المتحدة، يتأثر بشدة بفيروس كورونا، وقد وصلت معدلات البطالة في الاقتصادات القوية إلى مستويات غير مسبوقة…

كلّ ذلك صحيح لكنّ الصّحيح أيضاً أنّ الجائحة في لبنان، اتّخذت مناحي هدّامة لأسباب عدّة منها أنّ النظام المالي قبل الجانحة لم يكن متوازناً، وكانت التوترات السياسية عالية، وللأسف لم يكن ممثلو الشعب مهتمّين بمآلات الأمور وبتبعاتها على مختلف أطياف الشعب اللبناني.

كيف يمكن زيادة الثقة في لبنان وداخله؟ كيف نجد ترياقاً يداوي جراح الأسر التي فقدت أعزّاء؟

كيف ستدفع الاقتصادات الأكثر تضرّراً ديونها لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي؟ هذه المعضلة صارخة في لبنان، الذي عاش في ازدهار نسبي منذ عام 1992 بتفاؤل خطير، دون التخطيط لكيفية سداد القروض.

السؤال الرئيسي الّذي يطرحه خبراء الاقتصاد اليوم في العالم هو: كيف سيبدو العالم بعد كوفيد 19؟

من المؤكد أنّ النظام العالمي القديم قد تغيّر، لا بل ذهب إلى غير رجعة ولكن هل من الممكن من خلال الحوكمة الصحيحة أن تدار الأمور نحو الأفضل؟ هل سيتمكن بلد مثل لبنان من إعادة بناء حياته الاقتصادية؟ هل سيكون لبنان قادراً على المحافظة على مؤسسات ديمقراطية وخاضعة للمساءلة؟

في هذا الإطار يؤكد الخبراء أنه ينبغي على الدول الغربية، بقيادة روسيا والولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة وألمانيا بالإضافة إلى الدول الإسلامية مثل قطر والجمهورية الإسلامية في إيران والمملكة العربية السعودية، توحيد الجهود لضمان خروج لبنان، وأيّ بلد مثله، من الوباء بأمل واقعي ومؤكد، بدلاً من اليأس المسبّب للانقسام والتخريب خاصة أنّ كابوس 1975 بدأ يلوح في الأفق… فهل هذا ممكن في ظلّ عدم التوافق الدّولي والإقليمي حول لبنان ودوره ومآلاته؟

الحقيقة أنّ أحداً من الخارج لن يمدّ يده للبنان واللبنانيين من دون إصلاحات… وأنّ على قياداتهم السياسيّة أن تجترح حلولاً تخفّف من المعاناة وتحفظ الوطن.. لقد استفادت هذه القيادات من البحبوحة الاقتصاديّة.. وكدّس أمراؤها الثروات على حساب اللبنانيين.. عليهم الآن أن يكتفوا من الأخذ ويتوجّهوا نحو العطاء.. وعليهم أيضاً التوجّه إلى العالم بلغة مختلفة وخطاب مختلف علّ اللبنانيين الواقفين على محطّات الوقود وامام الأفران وأبواب السوبرماركت.. يرتاحون قليلاً فيلملمون الجراح ويرون في الأفق بارقة أمل قد صعب العيش بدونها…

ختاماً، مما لا شك فيه أنّ سبب الانهيار الوشيك في لبنان يعود بالدرجة الأولى للعهر السياسي من قبل بعض قياداته السياسية مما أوصل لبنان الى «وباء الاقتصاد اللبناني – 19» الذي مما لا شك فيه أكثر خطورة من وباء «كوفيد – 19».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى