أولى

بين النازيّة القديمة والنازيّة الجديدة هبّة رمضان المقدسيّة: الواقع والآفاق

 معن بشور

فيما يحتفل العالم بالذكرى 76 للانتصار على النازية الهتلرية القديمة، يخوض الفلسطينيون جميعاً، وأهل القدس بالتحديد، معركتهم ضد النازية الجديدة التي تبرّر وجودها باضطهاد هتلر لليهود، فيما يمارسون بحق الفلسطينين والعرب، وعلى مدى 73 عاماً، أبشع أنواع القمع والاضطهاد المصحوب بمجازر لا تقلّ في حجمها وضحاياها عن مجازر «الهولوكوست» التي يتحدثون عنها.

وإذا كان العالم، بغربه وشرقه، قد انتصر على النازية وحلفائهما وقدّم عشرات الملايين من الضحايا في الحرب العالمية الثانية (بينهم 23 مليون في الاتحاد السوفياتي وحدَه)، فإنّ الفلسطينيين ومعهم أشقاؤهم العرب الذين قدّموا في الاعتداءات والحروب الصهيونية عليهم عشرات الآلاف من الشهداء في فلسطين والدول الشقيقة والمحيطة بفلسطين، واثقون بأنّ النصر في النهاية حليفهم.

وثقة الفلسطينيين والعرب بأنّ النصر حليفهم لا تنبع من أوهام أو أحلام أو تفاؤل غير مبرّر، فما تشهده أرض فلسطين من مواجهات بطوليّة يهرب فيها قطعان المتطرفين وحرس الحدود وأفراد الشرطة المدججين بالسلاح أمام شباب القدس الذين لا يملكون سوى إرادتهم المدجّجة بالإيمان بحقهم في أرضهم وكرامتهم ومقدساتهم.

وقد لا تكون الهبّة الرمضانية المباركة في الأسابيع الأخيرة، هي الهبّة الأولى في القدس، ولن تكون الأخيرة، لكنها بالتأكيد تتميّز عن هبّات أخرى سابقة لها، كهبّة البوابات الإلكترونية، وهبّة باب الرحمة، وهبّة باب الأسباط، بل عن انتفاضات كبرى كانتفاضة الحجارة عام 1987، وانتفاضة الأقصى عام 2000.

فالهبّة الحالية المرشحة للتحوّل إلى انتفاضة شاملة، والانتفاضة المرشحة لأن تتحوّل إلى معركة حاسمة، تتميّز أنها تأتي في ظروف تشهد فيها موازين القوى في فلسطين والمنطقة والإقليم تحوّلاً لغير صالح المشروع الصهيو – استعماري.

فإلى جانب الهبّة الشعبية في رحاب الأقصى وفي حي الشيخ جراح هناك مقاومة مسلحة في غزّة، امتحن العدو قوتها في أكثر من جولة ولم يتمكّن من الانتصار عليها، بل خرجت من كلّ معركة «بمعادلة اشتباك» جديدة تعترف بتطوّر قدرات المقاومة التي يعرف المحتلّ اليوم أنها قادرة على قصف تل أبيب نفسها إذا تجرأ وواصل عدوانه على الأقصى والقدس.

وإلى جانب هذا التطوّر في موازين القوى داخل فلسطين التاريخيّة، فإنّ هناك تطوراً آخر لا يقلّ أهمية وخطورة، هو عمق المأزق البنيوي الكبير الذي يعانية الكيان الغاصب والمحتلّ، والمتمثل بضعف الجبهة الداخلية من جهة، وبالعجز عن تشكيل حكومة رغم إجرائه أربع انتخابات متتالية، بعد أن بات الكيان للمرة الأولى في تاريخه رهينة رجل واحد يخشى المحاكمة والسجن وهو نتنياهو، فيما كانت قوة هذا الكيان منذ تأسيسه تعتمد، في ما تعتمد، على إخضاع مصائر القادة لمصلحة الكيان وليس العكس..

بالإضافة إلى هذين التطوّرين البارزين داخل فلسطين التاريخية، وفي واقع الكيان الغاصب نفسه، يمكن ملاحظة التحوّل في موازين القوى الإقليمية مع تنامي دور قوى المقاومة في الإقليم، خصوصاً مع صمود سورية واليمن والمقاومة في لبنان ومعهم إيران التي ستخرج منتصرة في معركة الاتفاق النووي.

واذا اضفنا إلى هذه المتغيّرات تحوّلاً في المزاج الدولي العام لغير صالح هذا الكيان، تحولاً لم يقتصر على تنامي التأييد العالمي للحق الفلسطيني فحسب، بل أيضاً وصل إلى المستوى الرسميّ وبعض مراكز القرار في دول كانت منحازة تاريخياً لكلّ ما تفعله تل أبيب، لا سيّما كدول الاتحاد الأوروبي وعدد وازن من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي، بالإضافة إلى أكاديميين وطلاب شكّلوا في العديد من جامعات الولايات المتحدة لجان «من أجل العدالة لفلسطين»، بعد تأسيس المنتدى العربي الدولي من أجل العدالة لفلسطين في بيروت في 21/2/2015، برئاسة وزير العدل الأميركي الراحل حديثاً رامزي كلارك.

ولكن هذا التحوّل في المزاج العالمي، (والذي وصل حتى الى تجمعات يهودية أميركية لا تخفي اعتراضها على انحياز واشنطن لسياسات نتنياهو)، ليس وحده ما يؤثر على الكيان الصهيوني، بل أيضاً التراجع في النفود الأميركيّ في العالم كله، ناهيك عن تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وحتى الدفاعية، داخل الولايات المتحدة الأميركية التي تجعلها أقل قدرة على مساندة الكيان الصهيوني، وقد بات العديد من الأميركيين والأوروبيين يرون في هذا الكيان عبئاً استراتيجياً عسكرياً واقتصادياً وأخلاقياً على بلادهم.

ولقد أعلن أحد المشاركين الأوروبيين في «للقاء الشعبي العربي الإسلامي الدولي الجامع: «متّحدون من أجل القدس» الذي انعقد عبر الزوم في 28 الحالي أن استفتاء جرى في الاتحاد الأوروبي، حول القضية الفلسطينية قد أظهر أن أغلبية الأوروبيين مؤيّدون للحق الفلسطيني، مما اضطر وزير خارجية الاتحاد الأوروبي إلى الاعتذار إلى حكومة تل أبيب عن نتائج هذا الاستفتاء.

كلّ هذه التحوّلات تبشّر بإمكانية تحقيق إنجازات كبرى من هذه الهبّة – الانتفاضة وتداعياتها قد يكون أبرزها الانسحاب من الضفة الغربيّة والقدس، ووقف الاستيطان، وهو ما كان يؤكّد عليه دائماً المفكر العربي الفلسطيني الكبير منير شفيق حين كان يدعو القوى الفلسطينية إلى توحيد جهودها وطاقاتها لإطلاق انتفاضة ثالثة في الأرض المحتلة، تمتلك كلّ الشروط المحليّة والإقليميّة والدوليّة لدحر الاحتلال ووقف الاستيطان، بل انتفاضة تحقق الوحدة الفلسطينية ميدانياً بعد التردّد والارتباك اللذين يواجهان مساعي تحقيق الوحدة سياسياً وتنظيمياً.

إنّ تحوّل الهبّة إلى انتفاضة، والانتفاضة إلى معركة تحقق أهدافاً تاريخية للشعب الفلسطيني مرهون بأمور أساسية:

أولها: على الصعيد الفلسطيني: صون الوحدة الميدانية التي شهدتها القدس وعموم فلسطين، وهي وحدة لم تنحصر بالفصائل وحدها، بل بكل مكوّنات فلسطين التاريخيّة في الضفة وغزّة وأراضي 48، ناهيك عن القدس التي حسمت حتى الآن هويتها العربية – الإسلامية، كما حمت الأقصى من انتهاكات المستوطنين، وأوقفت عملية إخلاء عائلات حي الشيخ جراح من بيوتهم.

إن صون الوحدة الميدانية، بعيداً عن الحسابات الفصائلية والحزبية الضيقة، يتطلب أيضاً تغليب الخطاب الوحدوي على كل خطب الانقسام والتشرذم والفتنة التي ما دخلت انتفاضة شعبية مباركة إلا وأجهضتها، ولنا في تجربتنا مع انتفاضة 17 تشرين المباركة في لبنان أكبر مثال حين أراد البعض تحويلها من ظاهرة شعبية جامعة توحد الشعب اللبناني ضد الفساد والجوع، إلى ظاهرة سياسية فئوية تؤدي إلى انقسام بين اللبنانيين.

ثاني هذه الأمور: هو تحرك على الصعيد الشعبي العربي يدفع حكومات «التطبيع»، القديم منه والجديد، إلى إلغاء كل الاتفاقات مع العدو وإغلاق كلّ السفارات أو مكاتب الاتصال، وإحكام المقاطعة عليه بكل أشكالها، وهو أمر حصل فعلاً بعد انتفاضة الأقصى المباركة عام 2000، بل وصل الأمر إلى جرف سفارة الكيان في نواكشوط تضامناً مع شعب فلسطين في مواجهة العدوان على غزّة.

إن الضغط على الحكومات العربية يبدأ من الشارع وقواه الحزبية والنقابية والمجتمعية وأوساطه الثقافية والإعلامية ليصل إلى دوائر القرار..

كما أنّ المطلوب عربياً السعي لتجميع كلّ التيارات الملتزمة بقضية فلسطين، وتجاوز كل ما شهدته من صراعات عبثية مدمّرة، والسعي لإغلاق ملفات الحروب والفتن داخل العديد من أقطار الأمّة، وقد بات واضحاً أن هذه الأقطار كسورية وليبيا واليمن، وقبلها العراق والجزائر، لم تشهد ما شهدته من حروب و فتن إلا في إطار مخطط صهيو – استعماري يهدف إلى تفتيت المنطقة واستغلال مطالب مشروعة لتنفيذ مخططات مشبوهة.

أما على الصعيد الدولي: فالمطلوب أن يبادر أحرار العالم الموجودون في القارات الخمس، والذين لا يخفون تعاطفهم مع الحق الفلسطيني والعربي، بالتحرك مع العرب والمسلمين المقيمين في بلادهم، لمحاصرة الكيان الصهيوني وللضغط على حكوماتهم لمقاطعة هذا الكيان، على غرار ما جرى من مقاطعة عالميّة للنظام العنصريّ في جنوب أفريقيا، وهي المقاطعة التي أدّت، مع نضال الشعب الجنوب افريقي، إلى انهيار ذلك النظام الذي تجمعه بالكيان الصهيونيّ العنصري أوجه شبه عديدة.

كما أنّ دعم القضية الفلسطينية دولياً يتطلب السعي لإدانة الإرهاب الصهيوني في كافة المنظمات والهيئات الدولية ذات الصلة، بدءاً من دعوة مجلس الأمن إلى تنفيذ القرارات الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية تحت طائلة التهديد بتطبيق البند السابع على الكيان الصهيوني، مروراً بمجلس حقوق الإنسان، وصولاً إلى المحكمة الجنائية الدولية المطالبة بمحاكمة كل مسؤول عن ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية.

إنّ ما تشهده القدس، ومعها كلّ الأرض والتجمعات الفلسطينية، من هبّة مباركة، وشجاعة بالغة في التصدي للعدوان، يشير إلى أنّ يوم 28 رمضان، حيث المواجهة بين الفلسطينيين وقطعان المتطرفين المحتشدين لاقتحام الأقصى، ستكون كبيرة، وهو يوم مرشّح لأن يكون مماثلاً ليوم 28 أيلول/ سبتمبر 2000، حيث انطلقت الانتفاضة الثانية، انتفاضة الأقصى بعد اقتحام شارون المسجد المبارك ليطلق الرئيس الشهيد أبو عمار شرارة الانتفاضة.. بعد رفضه الإذعان لضغوط الرئيس الأميركي بيل كلينتون وتهديداته في كمب ديفيد…

فهل نحن على أبواب الانتفاضة الثالثة التي نأمل أن تكون «ثابتة» وتحقّق أهداف الشعب الفلسطينيّ والأمّة العربية؟

سؤال تحمل الأيام المقبلة الإجابة عليه…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى