أولى

الفساد خطر داهم يجب مواجهته!

 د. محمد سيد أحمد

ليست المرة الأولى التي أكتب فيها عن الفساد ولن تكون الأخيرة، فظاهرة الفساد واحدة من الظواهر الاجتماعية التي لا يخلو منها مجتمع بشري، ومن حسن حظي أنني قد حضرت هذا الأسبوع مناقشة أطروحة دكتوراه عن «اتجاهات المواطنين نحو الفساد في المجتمع المصري»، لأحد الباحثين الشبان الجادّين المتميّزين الواعدين من المتخصصين في علم الاجتماع السياسي، وهو الدكتور إسلام سامي المدرس المساعد بقسم علم الاجتماع بكلية الآداب بجامعة المنوفية، وهو ما شجعني على العودة مجدّداً للكتابة حول موضوع الفساد، ومصر مثلها مثل كلّ المجتمعات شهدت خلال تاريخها الممتدّ عبر آلاف السنين أشكالاً متعدّدة من الفساد، لكن ما تبلور في مصر من فساد منذ مطلع السبعينيات وحتى الآن لا يمكن أن يضاهيه كلّ ما مرّ بها عبر تاريخها من أشكال الفساد.

فمنذ أعلن الرئيس السادات عن تخلي مصر عن مشروعها الوطني والقومي والتنموي لصالح مشروع التبعية والانفتاح والتخلف، والفساد ينمو بشكل سرطاني في جسد الوطن، فلا يمكن أن أنسى مقولات البسطاء من أهالينا في المناطق والأحياء الشعبية الفقيرة حين يتحدثون عن الرئيس السادات وأيامه، وكنا في ذلك الوقت أطفالاً وصبية صغاراً لا نعرف شيئاً عن مبادئ الاقتصاد والسياسة «أن من لم يغتنِ في عصره لن يرى غنى أو نعمة من بعده»، وعندما كبرنا وبدأ وعينا يتشكل أدركنا أنهم يتحدثون عن الانفتاح الاقتصادي والسمسرة والمضاربة والسرقة والنهب والاتجار في كلّ شيء من دون وازع من أخلاق أو ضمير، فسمعنا عن ظواهر اجتماعية تنمّ عن انهيار تامّ في منظومة القيم داخل المجتمع، وترسّخت في أذهاننا مقولة الكاتب الصحافي الكبير أحمد بهاء الدين للرئيس السادات نفسه إن هذا الانفتاح يشكل وبالاً على الشعب المصري لأنه «انفتاح سداح مداح»، والذي بفضله ظهرت أنواع وأشكال متعددة من الفساد.

ويأتي الفساد الكبير في المقدمة، ذلك الفساد الذي تجسّد بداية في ما أطلق عليه «القطط السمان» مجموعة من الفاسدين الكبار الذين يرتبطون بعلاقات وطيدة مع السلطة السياسية وصلت إلى علاقات مصاهرة مع رأس الدولة ذاته، وتاجر وسمسر هؤلاء في كل شيء حتى كوّنوا ثروات ضخمة، وبدأنا نسمع عن أصحاب الأرانب والمقصود بها المليون جنيه، فتشكلت مجموعة من المليونيرات من أصول اجتماعية واقتصادية لم تكن تسمح لهم بتشكيل تلك الثروات غير المبرّرة، لكن تحالفاتهم مع السلطة السياسية هي التي منحتهم فرصة تكوين هذه الثروات بطرق مشروعة أحياناً وغير مشروعة غالباً، وهذا النوع من الفساد الكبير ظلّ موجوداً بل دخلت عليه تطوّرات كبيرة خلال حكم الرئيس مبارك وهو ما تبلور أخيراً في شكل مجموعة من رجال الأعمال الذين يسيطرون على الاقتصاد الوطني غير المنتج عن طريق علاقات وثيقة الصلة بالسلطة السياسية، تحوّلت في أواخر عصر مبارك إلى بروز ظاهرة تزاوج رأس المال والسلطة، فأصبحوا شركاء لمبارك في حكم مصر.

أما النوع الثاني فهو الفساد المتوسط والذي بدأ ينمو وينتشر داخل الجهاز البيروقراطي للدولة حيث وكلاء الوزارات وكبار المديرين ونوابهم ورؤساء الأقسام داخل شركات ومصانع ومؤسسات الدولة المختلفة، والذين تعاملوا مع المال العام على أنه مال خاص فأخذوا منه ما لا يستحقون وبدأت عمليات الرشوة والمحسوبية والوساطة تنتشر بشكل وبائي داخل الجهاز الإداري للدولة مما أدّى إلى انهيار المؤسسات العامة وتراجع العملية الإنتاجية وبدلاً من تحقيق مكاسب داخل هذه الشركات والمصانع والمؤسسات بدأت تحقق خسائر ضخمة كمقدّمة لاتخاذ قرار بضرورة التخلص من ممتلكات الشعب بدلاً من التخلص من هؤلاء الفاسدين الذين يديرونها، وقد اتخذ هذا القرار بواسطة الفاسدين الكبار الذين سيشترون وسيسمسرون من وراء عمليات البيع.

وفي ظلّ هذه الأجواء انتشر الفقر بشكل غير مسبوق لدى الغالبية العظمى من المصريين وتحت وطأة الحاجة والفقر بدأ الفساد الصغير ينتشر بين جموع المصريين وفي كلّ ربوع الوطن، فلا مصلحة تقضى إلا بالدفع من العملات المالية ذات الفئات المختلفة، وأصبحنا نسمع عن نظرية الأدراج المفتوحة، وتطورت المسألة بشكل كبير، فالموظف الشريف أصبح متسوّلاً، والأكثر جرأة أصبح مبتزاً مقابل تقديم الخدمة، والأكثر بيعاً لضميره أصبح مرتشياً والجميع يبرّر تسوّله وابتزازه ورشوته بعدم كفاية راتبه لسدّ رمقه وأسرته، وانتقلت العدوى لكلّ قطاعات المجتمع، الكلّ يمارس الفساد بأشكاله المختلفة ومن يرفض التسوّل والابتزاز والرشوة والوساطة والمحسوبية سيجبر يوماً على ممارساتها لأنها تحوّلت إلى أسلوب حياة وثقافة مجتمع انهارت منظومته الأخلاقية، لذلك لا عجب أن تتجسّد مقولة المبدع الراحل عاطف الطيب في فيلمه الشهير «ضدّ الحكومة» وعلى لسان بطله العبقري الراحل أحمد زكي حين وقف أمام المحكمة وقال قولته الشهيرة «لنا فاسدون حتى بالصمت العاجز المتخاذل قليل الحيلة».

وبعد هذا التوصيف يتبادر إلى الذهن ذلك السؤال المشروع الذي يحجم كثير من الباحثين عن طرحه وهو كيف نواجه هذا الفساد؟! والإجابة تؤكد أنه علينا أن نبدأ فوراً معركة مواجهة الفساد الكبير المتمثل في مجموعة رجال الأعمال الذين كوّنوا ثرواتهم بتحالفاتهم مع نظامي السادات ـ مبارك والذين يسيطرون على مقدرات الاقتصاد الوطني، وعدد هؤلاء محدود للغاية، وعند بداية المعركة سيدخل الفساد المتوسط للجحور، وعندما تبدأ عمليات التنمية الحقيقية وتوزع عائداتها على الفقراء سيختفي الفساد الصغير، وسوف تتشكل منظومة قيم جديدة معادية للفساد والفاسدين، اللهم بلغت اللهم فاشهد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى