أولى

تطبيع العلاقات بين السعودية ولبنان: يُبرّد الخلافات ولا يطفئ نارها

 د. عصام نعمان*

فتحت استقالة الوزير جورج قرداحي باباً أمام إيمانويل ماكرون للقيام بوساطةٍ ملحةٍ مع محمد بن سلمان لإيجاد مخرج من مأزق العلاقات المتأزمة بين لبنان والسعودية ومعظم دول الخليج. الرئيس الفرنسي كان يعرف، كما ولي العهد السعودي، أنّ الأزمة تتعدّى شخص قرداحي وبقاءه أو خروجه من الحكومة. فالمسألة هي وجود حزب الله في السلطة وإيجاد صيغة تتقبلّه فيها السعودية، وذلك تفادياً لاستمرار الغضب الخليجي ومعه ازدياد أزمة العلاقات السياسية والاقتصادية تعقيداً وتردّياً.

استقالة قرداحي منحت محمد بن سلمان فرصةً للتجاوب مع ماكرون القادم لعقد صفقات أسلحة وطائرات وخدمات تقنية للسعودية بمليارات الدولارات. في حمأة هذه الملابسات والأغراض انتهت المباحثات بين القطبين إلى تكريس ماكرون عرّاباً لتطبيع العلاقات بين الرياض وبيروت، والى حصول وليّ العهد السعودي على ما يريده من فرنسا في مرحلة مفاوضات فيينا الجديدة المتعثرة لإحياء الاتفاق النووي مع إيران أو، ربما، لإطالة تعطيله.

   ما توصّل إليه قطبان وجرى إبلاغه إلى رئيس حكومة لبنان نجيب ميقاتي هو، باختصار، الاتفاق على إعادة تشغيل قنوات التواصل الديبلوماسي والتبادل التجاري بين السعودية ولبنان في سياق قيام حكومة ميقاتي بإصلاحات سياسية وإدارية واقتصادية تكون بدورها شرطاً ومدخلاً لعودة السعودية «ومعها دول الخليج» إلى الإستثمار الاقتصادي في لبنان.

غير أنّ الشرط الأكثر مدعاةً للتوقف عنده هو ذلك الذي جرى تضمينه البيان المشترك الصادر عن القطبين الفرنسي والسعودي والداعي إلى أن يكون السلاح حصراً في أيدي المؤسسات الشرعية اللبنانية.

المقصود بالسلاح سلاح المقاومة، أيّ حزب الله، الأمر الذي يعني بما لا يقبل الشك أنّ ماكرون نجح في تبريد الخلافات بين الرياض وبيروت، لكنه فشل في إطفاء نارها. ذلك أنّ الرياض لا تزال مصرّة، على ما يبدو، ليس على نزع سلاح حزب الله فحسب، بل على إبعاده أيضاً عن الحكومة، وهو مطلبٌ مستحيل القبول به في لبنان ناهيك عن تنفيذه في هذه الآونة.

إذْ تبقى نار الأزمة في لبنان مستعرة على رغم تطبيع العلاقات مع السعودية، فإنّ سؤالاً ينهض لتوّه خلالها بلا هوادة: ما العمل؟

السؤال مطروح، في الدرجة الأولى، على أهل السلطة والقرار في لبنان وإنْ كان هؤلاء يتأثرون بحلفاء وأصدقاء لهم في دول الشرق والغرب.

أهل السلطة والقرار في لبنان ثلاث فئات. الأولى تتكوّن من أركان نظام المحاصصة الطائفية ومنظومته الحاكمة ووكلائهم والمستفيدين من فسادهم. الثانية تتكوّن من معارضيهم دونما رفضٍ منهم بالضرورة للنظام القائم بكلّ مرتكزاته وزبانيته. الثالثة تتكوّن من أعداء النظام والمناهضين له والمنتفضين على سلطته، أشخاصاً ومؤسسات.

كلّ مكوّنات الفئات الثلاث منقسمة على نفسها بل متناحرة ومتشرذمة. مع ذلك، يبدو أهل النظام ومعارضوه، أيّ مكوّنات الفئتين الأولى والثانية، متحدّين حيال القضايا الأساسية بحكم مصالحهم، في حين يبدو أعداء النظام والمنتفضون عليه، أيّ مكوّنات الفئة الثالثة، متفرّقين في غالب الأحيان بفعل اختلاف مشاربهم وأفكارهم.

تواجه مكوّنات الفئات الثلاث، منذ نحو ثلاث سنوات، تحدّيات جمّة سياسية واقتصادية واجتماعية لعلّ أخطرها ثلاثة: الضائقة المعيشية المتفاقمة التي لامست حدّ المجاعة، والتحقيق الجنائي في كارثة تفجير مرفأ بيروت ومجزرة الطيونة، وتداعيات إجراء الانتخابات في ربيع العام المقبل أو عدم إجرائها.

لئن تكن مكوّنات الفئات الثلاث مدعوّة إلى التفكير والتدبير لمواجهة التحديات الأكثر خطورة المار ذكرها، وذلك بالإصلاحات والبرامج والوسائل والآليات اللازمة لتنفيذها، إلاّ أنّ مكوّنات الفئة الثالثة، أيّ المناهضين والمنتفضين الجادّين والجدّيين ضد نظام المحاصصة الطائفية، هم المعنيون أكثر من غيرهم بمواجهة هذه التحدّيات التي يمكن تركيز أسسها وتلخيصها على النحو الآتي:

أولاً: وجوب إيجاد مخطط وبرامج تمويل لعمليات تنفيذ سياسة التوجّه شرقاً دونما القطع بالضرورة مع دول الغرب الراغبة في توفير العون المالي والاقتصادي والتكنولوجي شريطة عدم المساس بسيادة لبنان على موارده الطبيعية «لا سيما النفط والغاز»، وبمؤسساته الاقتصادية الحيوية، وبحقه بل بواجبه في مقاومة العدوان الصهيوني عليه.

ثانياً: الحرص على ضمان متابعة التحقيق الجنائي في كارثة تفجير مرفأ بيروت، ومجزرة الطيونة، والأموال المهرّبة من المصارف إلى الخارج في شكلٍ مخالف للقانون، وذلك بممارسة أقصى الضغوط الشعبية على المنظومة الحاكمة لمنعها من تمييّع التحقيق أو التدخل فيه لحماية شركائها وانصارها، والعمل على إنشاء محكمة خاصة من خارج النظام القضائي القائم تتألف من قضاة واختصاصيين مستقلين ومشهود لهم لتتولى النظر والبتّ في الجرائم الناشئة عن المخالفات المُشار إليها آنفاً.

ثالثاً: مسارعة القوى الوطنية الحيّة الملتزمة والجدّية في رفض نظام المحاصصة الطائفية ومنظومته الحاكمة إلى التواصل الحثيث في ما بينها، وعقد الاجتماعات والندوات بغية البحث ووضع الخطط والبرامج والتدابير العملية لمواجهة التحديات المار ذكرها آنفاً، مع الحرص الشديد على ضرورة توصّل مكوّنات الفئة الثالثة، أيّ الأفراد الناشطين والشخصيات القيادية والتنظيمات الملتزمة والفاعلة، على صيغة تنظيمية عملية عريضة القاعدة لتنظيم نضال شعبي طويل النَفَس في وجه أهل النظام ومنظومته الحاكمة ولنصرة القوى الوطنية المقاومة للعدو الصهيوني.

إنّ مخاطر وتداعيات جمّة يمكن أن تنشأ عن إجراء الانتخابات أو عن عدم إجرائها، الأمر الذي يستوجب ارتفاع القوى الوطنية الحيّة بكلّ تلاوينها إلى مستوى التحديات المصيرية الماثلة، والانخراط مبكراً وبحرارة في مواجهتها قبل أن تتجذّر وتتمدّد.

*نائب ووزير سابق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى