أولى

سليماني المُخضَّب بالنور

 عبدالله علي صبري*

ونحن في مقام الشهيد الكبير يحار المرء ما عساه أن يكتب، وكيف للقلم أن يفي حق شخصية فريدة تعدّدت زوايا عظمتها حتى غدت سيرته ومسيرته أسوة حسنة لمن شاء اللحاق بركب المقاومة، وارتضى السير على درب التضحية في سبيل الله، ولأجل تحرير الأقصى وكلّ المقدسات في فلسطين المحتلة.

 بعزيمة لا تلين وبنفس ملؤها اليقين، اختطّ قائد “فيلق القدس” الشهيد قاسم سليماني نهج المواجهة المباشرة مع العدو، واقتحم مختلف التحديات، حتى بات والانتصار صنوان، ما أهله للمزيد من الترقي في درجات المسؤولية. وحين أصبح قائداً لفيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، وجد نفسه أمام مهمة لا تقلّ أهمية عن القضية الفلسطينية، فقد تمكنت المخابرات الأميركية أن تصنع تنظيمياً إرهابياً جديداً اتخذ مسمّى الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”، وأمكنت لهذا التنظيم أن يسيطر على مساحة كبيرة من العراق وسورية، ويعلن في الموصل عن قيام دولة غريبة عن العصر بقيادة أبو بكر البغدادي.

استفاقت العراق صبيحة هذه التطورات وقد أضحت بغداد على مرمى حجر من الاستهداف الإرهابي. ولأنّ الجيش النظامي كان عاجزاً عن حسم المواجهة بمفرده، جاء الحشد الشعبي ليملأ الفراغ، غير أنّ “داعش” والجماعات الإرهابية والتكفيرية الأخرى كانت قد وصلت سورية وهدّدت لبنان على نحو مباشر، فيما كانت المنطقة كلها تحت التهديد غير المباشر. أما محور المقاومة فقد كان على تماس مع الخطر الداهم، لدرجة أنّ أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله اعتبر أنّ الإرهاب وجماعات التكفير كـ “القاعدة” و«داعش”، يمثلان الخطر الأكبر على أمتنا بعد الصهيونية، وهذا ما كان يدركه قاسم سليماني أيضاً، وأكثر من ذلك رأى بعين بصيرته أنّ الإرهاب لن يتوقف عند حدّ معين ولن يقتصر على المنطقة العربية والإسلامية، ولعلَّه يجد فرصة التمدُّد إلى روسيا وجوارها أيضاً، خاصة إذا عرفنا أنّ “داعش” و«القاعدة” وأخواتهما صناعة أميركية.

هكذا خاض سليماني الملحمة الأهمّ في حياته بقلبه وعقله وذراعيه، قائداً يدير غرف العمليات، وجندياً يتقدّم الصفوف ويقتحم المعارك.

ولما انتصرت المقاومة وسقطت دولة الخرافة، وكان سليماني فارس النصر، فإنّ فلسطين لم تغب عن المشهد، وقد أجمعت كلّ فصائل المقاومة الفلسطينية على أنّ الشهيد سليماني كان الغائب الحاضر في معركة “سيف القدس” الأخيرة، حيث تمكّنت المقاومة من فرض معادلة جديدة حين طالت صواريخها تل أبيب وفرضت على أكثر من ستة ملايين يهودي الهرب إلى الملاجئ لأكثر من عشرة أيام.

لم يغفل سليماني عن العدو الصهيوني، الذي كان يرى في العشرية الأخيرة فرصة ذهبية باتجاه تصفية القضية الفلسطينية، ساعدته في ذلك حالة النظام العربي الرسمي، واستمرار الدعم الأميركي والغربي لهذا الكيان الغاصب، إلا أنّ المقاومة الفلسطينية كانت هي الأخرى تستعدّ لمثل هذه المستجدات من خلال تطوير قدراتها العسكرية والتدريبية، وكان للجمهورية الإسلامية الإيرانية من خلال “فيلق القدس” والقائد سليماني العطاء الأوفر في دعم المقاومة الفلسطينية، ما يفسّر هذا الاستهداف الأميركي والصهيوني وملاحقتهما سليماني حيثما تحرك، وحيثما ترك أثراً مادياً أو معنوياً. ولا شك في أنّ عشرات المحاولات الفاشلة قد سبقت عملية الاغتيال الأخيرة، مع فارق أنّ تغييب جسد القائد  البطل، قد منح روحه وطيفه هامشاً أكبر من الحضور والتأثير ولا ريب. فالله عزّ وجلّ هو من بشر أولياءه من الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم، وإن أدرجهم الناس في عداد الموتى والقتلى.

ارتحل الفارس عن دنيانا وجسده المخضب بالدم هو الشاهد الأكبر على الفوز العظيم الذي ظفر به سليماني والمهندس ورفاقهما، واليوم فإنّ طيف سليماني وروحه المخضبة بالنور حاضرة بيننا تبعث على الأمن والسكينة، وتكاد تنطق بالنصر الأكيد والقريب.

عامان على استشهاد سليماني، ولما تهدأ الأحزان أو يسكن الغضب، وأنى للأحرار أن تطمئن نفوسهم إلا وقد تجرّع العدو ثمن ما اقترفته يداه. بيد أنّ الثأر لسليماني لا ينبغي أن يكون لشخصه، فمن هي الرؤوس التي يمكن أن تكافئ أصابع شهيدنا المعفرة بالدم؟ وإذ لا يوجد، فإنّ الثأر يكون للمشروع الذي خطه الشهيد جهاداً واجتهاداً.

ولأنّ فلسطين هي البوصلة، فإنّ دعم المقاومة الفلسطينية وترسيخ ثقافة الجهاد في أوساط شباب الأمة، والتصدي للتطرف والانحراف المؤديان للتكفير والإرهاب، تبقى المهمة الأسمى برغم كلّ التعقيدات والصعاب التي تكتنفها، فجذوة أي مقاومة لا يمكن لها أن تتقد وتتوقد إن لم يكن أساسها الإيمان والفكر قبل المال والسلاح، ولنا في شهداء المقاومة في فلسطين واليمن ولبنان وسورية والعراق وإيران مثال يحتذى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*سفير الجمهورية اليمنية في سورية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى