مقالات وآراء

«البعث» في عيد تأسيسه: التجربة التاريخية والمراجعة المطلوبة

} معن بشور

كم تحتاج حياتنا الحزبية والسياسية والاجتماعية الى ثقافة الإنصاف والنهج الموضوعي في تقييمها لكلّ الظواهر التي تمرّ بها الأمّة، وتجسّدت في قادة أو أحزاب أو هيئات، لا لأنّ إنصاف هذه الظواهر أمر أخلاقي أولاً وأخيراً فقط، بل لأنّ الإنصاف والموضوعية يمّكنانا من الاستفادة من تجارب الآخرين، فنطوّر إيجابياتها ونتجنّب سلبياتها.

تخطر هذه الملاحظة كلما ورد الحديث عن قائد من قادتنا، أو حزب من أحزابنا، أو ظاهرة من الظواهر التي عشناها أو نعيشها، لا سيّما في مجتمع مشحون بالانقسامات على أنواعها، والعصبيات على تعدّدها، حيث لا يستطيع البعض إلاّ أن يرى السلبيات في كلّ من يعارضه، والايجابيات في كلّ من يؤيّده.

 وحزب البعث العربي الاشتراكي، الذي يحتفل اليوم بيوبيله الماسي لتأسيسه في مقهى الروضة في دمشق في 7 نيسان 1947، والذي افتتح قادته ومناضلوه معركة العصر في مواجهة الهيمنة الأميركية على العالم من خلال الحصار والحرب على العراق التي شاء المحتلّ أن يتوّجها باحتلال عاصمته بغداد في التاسع من نيسان 2003، فيما كان مخططاً أن يحتلها في السابع من نيسان لولا معركة المطار التاريخية التي أخّرت الاحتلال ليومين.

 في تجربة «البعث» في سورية والعراق وفي العديد من أقطار الأمة، مناضلون استشهدوا أو أمضوا سنوات وعقوداً من حياتهم في السجون والمعتقلات، كما لها معارضون تعرّضوا لقسوة شديدة على يد أجهزة الأنظمة التي حكمها البعث… وهي قسوة لا تبرّرها أبداً خلافات فكرية أو سياسية أو حتى رفاقية داخل الحزب الواحد.

لكن لتجارب «البعث» منذ مشاركة قادته ومؤسّسيه في الدفاع عن فلسطين أيام نكبتها عام 1948، وقد ارتقى منهم شهداء الى هذا اليوم إيجابيات لا يمكن اغفالها سواء في سورية التي بقيت رغم كلّ ما واجهته، وتواجهه، القلعة الحصينة والظهر المتين للمقاومة الفلسطينية واللبنانية ولإرادة التحرّر والاستقلال في الأمة، أو في العراق الذي لا يستطيع أحد إنكار دوره الطليعي في تأميم النفط في 1 حزيران/ يونيو 1972، ناهيك عن إطلاق شعبه أشدّ مقاومة هزّت المشروع الاستعماري الأميركي بعد احتلال العراق عام 2003، وتحمّلت الحصار والشيطنة وأصرّ الإعلام المشبوه على تسميتها بـ «المقاومة السنيّة» لأنها تركّزت في البداية في الفلوجة وغرب العراق وشماله، تماماً كما يجري تشويه المقاومة اللبنانية بتصويرها «مقاومة شيعية» لأنها تتركّز في جنوب لبنان، فيما هي، في العراق كما في لبنان، منذ البداية مقاومة أصيلة عابرة لكلّ الطوائف والمذاهب في لبنان والعراق .

وحتى معارضو النظام السوري كانوا يجدون في عراق البعث ملاذاً لهم، فيما معارضو النظام العراقي كانوا يرون في سورية البعث سنداً وعوناً لهم، مما يؤكّد انّ المشكلة لم تكن مع البعث كحزب وكنهج بقدر ما كانت تعبيراً سياسياً عن خلافات مع سلطته في هذا القطر او ذاك.

 والإنصاف في تقييم تجربة البعث، كما الموضوعية، يقتضيان ان لا نتعامل معه كأنه حزب محصور في قطرين تمكّن من حكمهما، بل هو حزب له مناضلون وشهداء في العديد من أقطار الأمة، حيث لا ينسى اللبنانيون مثلاً دور البعثيين مع رفاقهم في الأحزاب الوطنية والقومية في إطلاق إولى رصاصات المقاومة في القرى الأمامية من جنوب لبنان في أواخر ستينات القرن الماضي، وحيث نجح البعثيون في تعبئة طاقات مقاومة من كلّ لبنان روى أبناؤها أرض الجنوب بدمائهم.

 والأمر نفسه برز مع البعثيين في فلسطين منذ عام 1948، سواء من التحق منهم بحركة فتح بعد نكسة 1967، او بجبهة التحرير العربية التي ترى في يوم تأسيس البعث في السابع من نيسان يوماً لتأسيسها.

 وما ينطبق على المشرق العربي بما فيه الأردن، ينطبق على أقطار الخليج والجزيرة العربية، كما على أقطار النيل والمغرب العربي، حيث نجد انتشاراً لـ «البعث» في كلّ تلك الأقطار وحيث برز بينهم مفكرون ومناضلون ومؤرخون ونقابيون باتوا رموزاً في أقطارهم.

 كلّ هذه الحقائق جعلت «البعث» في العراق هدفاً لحرب استعمارية كان أول مفاعيلها اجتثاث «البعث»، والحرب الكونية في سورية كان من أبرز أهدافها استئصال «البعث»، كما كانت شيطنة «البعث»، وحتى البعثيين خارج تنظيمات الحزب، بشتى الوسائل والأفكار، دون أن ننسى انّ الأخطاء والخطايا التي وقعت بها تجربة «البعث» كانت الثغرة الأهمّ التي تسلّل منها أعداؤه في الداخل والخارج.

أضف الى ذلك انّ «البعث»، لم يكن مجرّد تنظيم حزبي، بقدر ما كان إطاراً فكرياً معنيّاً بصياغة مشروع نهضوي للأمة، حين ربط بين الوحدة والحرية والاشتراكية، وحين أكّد على التكامل بين العروبة والإسلام، وحين جمع بين النضال القومي لتحرير الأرض والنضال الاجتماعي والديمقراطي لتحرير الانسان، وحين أكّد أنّ فلسطين لا تحرّرها الحكومات بل الكفاح الشعبي، وعلى رأسه المقاومة.

 بالتأكيد لم يستطع «البعث» في التجربة العملية ان يجسّد تلك الأفكار تماماً، كما أرادها مؤسّسوه، لكن بالتأكيد لم تستطع فكرة نهضوية عربية أن تخرج عن هذا الإطار الذي وضعه «البعث» كحزب شارك في معارك الأمة الكبرى على مدى 75 عاماً.

 من هنا فإنّ الإنصاف والموضوعية في تقييم تجربة «البعث» يقتضيان من الجميع، بعثيون وغير بعثيين، حزبيون داخل تنظيمات الحزب وبعثيون خارجه، ان يقوموا بمراجعة موضوعية لهذه التجربة بكلّ ما هو مضيء فيها نستنير منه وبكلّ ما هو معتم فيها نسعى الى التخلّص منه.

 المراجعة اليوم هي الخطوة الأولى في استنهاض قوى أمتنا الحيّة من كلّ التيارات والأحزاب، انها الركن الرابع في معادلة الخلاص التي أطلقتها يوم أولاني أعضاء المؤتمر القومي العربي ثقتهم بانتخابي أميناً عاماً للمؤتمر في دورة صنعاء عام 2003 والتي ترى انّ خلاص الأمة يقوم على أربع ركائز أولاها المقاومة وثانيتها المراجعة، وثالثتها المصالحة، ورابعتها المشاركة.

وما زالت رباعية الخلاص صالحة ونحن نهنّئ البعثيين بعيدهم ونحيّي ذكرى شهدائهم قادة ومناضلين، وندعو لإطلاق المعتقلين منهم لا سيّما من سَجَنَهم المحتّل الصهيوني او الغزاة الأميركان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى