مقالات وآراء

ورقة التوت الأخيرة…

د. علي أكرم زعيتر

الغريب في أمر السعودية، أنها تخطو خطوة معلنَةً باتجاه إيران تقابلها خطوتان غير معلنتين باتجاه الكيان الصهيوني، علماً أنّ المسارين الإيراني والإسرائيلي متوازيان، لا يمكن أن يلتقيا بأيّ حال من الأحوال. فإما أن تكون صديقاً لـ “إسرائيل” وإما أن تكون صديقاً لعدوّتها اللدود إيران. حبّ إيران وحبّ “إسرائيل” لا يجتمعان في قلب واحد.
يبدو واضحاً أنّ السعودية تحاول أن تكون أكثر دهاءً وخبثاً، بدليل أنها لا تزال توهم مواطنيها والمواطنين العرب بأنها ثابتة على موقفها من كيان الاحتلال، فيما التطبيع بينها وبين تل أبيب يسير على قدم وساق.
حتّامَ تحافظ السعودية على بعضٍ من حيائها، ومتى تنزع ورقة التوت الأخيرة عنها، بحيث لا تجد حرجاً بعدها من إشهار زواجها الباطل بـ “إسرائيل”؟!
الإجابة على هذا السؤال رهن بالأيام المقبلة، إذ لا أحد يعلم متى يفقد ابن سلمان حياءه بالكامل!
هناك معلومات مؤكدة حول عزم مستشار الرئيس الأميركي لشؤون الشرق الأوسط بريت ماك غورك، ومساعدة وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى باربارا ليف على زيارة السعودية نهاية الأسبوع الحالي، لعقد مشاورات مع ولي العهد محمد بن سلمان.
بالتزامن مع زيارة ماك غورك وليف، يُحكى عن زيارة مرتقبة لأمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية حسين الشيخ إلى السعودية، وفي حال التقت الأطراف الثلاثة الأميركي، السعودي، الفلسطيني، فهذا يعني أنّ ما نقله موقع واللا العبري حول رغبة واشنطن في إبرام اتفاق ثلاثي بين السعودية و”إسرائيل” والسلطة الفلسطينية صحيح بنسبة لا بأس بها، وإلا فكيف يمكن تفسير هذا التزامن المريب؟!
يبدو بحسب المعطيات المتوافرة، أنّ العقبة الوحيدة التي لا تزال تواجه السعودية في مشروعها الرامي إلى إتمام صفقة التطبيع مع الكيان الصهيوني هو رفض السلطة الفلسطينية للعروض التي تقدّمها لها واشنطن.
الولايات المتحدة تحاول جاهدة إقناع السلطة الفلسطينية بضرورة إبرام اتفاق مبدئي مع كيان الاحتلال، كسبيل وحيد لضمان حقوق الشعب الفلسطيني.
في المقابل، فإنّ قادة السلطة في رام الله يربطون أيّ موافقة مبدئية على اتفاق ثانوي أو نهائي مع كيان الاحتلال بمدى جدية الولايات المتحدة في دعم مشروع إقامة دولة فلسطينية معترف بها في الأمم المتحدة ولها مقعد خاص بها شأنها شأن أيّ دولة أخرى.
هذا المطلب الفلسطيني، لا يزال على ما يبدو بعيد المنال، نظراً لحساسية قادة الكيان إزاء فكرة إقامة دولة فلسطينية مستقلة ومعترف بها أممياً. الأمر أشبه بالنكسة بالنسبة لـ “إسرائيل”.
نحن أمام أربعة أطراف، أجمعت أمرها على إبرام صفقة التطبيع. ولكلّ منها مكاسب وخسائر من إبرام هذه الصفقة، فما أهمّ تلك الخسائر والمكاسب؟
أ ـ تراهن السعودية على مكسبين قد تحصدهما من الولايات المتحدة في حال إتمام صفقة التطبيع:
1 ـ إبرام معاهدة حماية وتسليح بينها وبين واشنطن شبيهة بمعاهدة حلف شمال الأطلسي، ما يعني أنّ الولايات المتحدة ستغدو ملزمة بالدفاع عنها كلما تعرّضت لتهديد خارجي.
2 ـ تأمل السعودية من انخراطها في صفقة من هذا النوع، أن تحظى بثقة ورضا الولايات المتحدة، ما يخوّلها بحسب ما يعتقد ولي عهدها الحصول على الدعم والغطاء الأميركيَّين الكافيين للانطلاق بمشروع نووي مدني سلمي يكون جزءاً من رؤية 2030.
ب ـ يغيب عن بال السعودية وهي تشحذ أسنانها لقضم المكسبين الآنفين، أنها بمجرد الولوغ في وعاء التطبيع، تكون قد أهرقت ماء وجهها على أعتاب العرب والمسلمين وخسرت مكانتها بينهم.
مهد الإسلام، وبلد الحرمين الشريفين تلهث خلف التطبيع! أيّ عار بعد هذا يمكن أن يحتمله ولي العهد وأبوه المغيب عن الأنظار والأسماع؟! الأمر جلل، ولا قدرة للمملكة على تجاوزه أو تبريره.
ما إن تُقْدم السعودية على خطوة من هذا النوع حتى تغدو مطالبةً بالتوضيح والتبرير من قرابة ملياري مسلم. مسلمون كثر حول العالم سيفقدون ثقتهم بها، وسيتلاشى تأثيرها تدريجياً. فالوعي الجماعي العربي والإسلامي ما زال يختزن في ذاكرته الكثير من الكراهية والاشمئزاز حيال الكيان الصهيوني.
ج ـ حتى إيران التي وقعت معها بالأمس ورقة التفاهم، قد تقرّر هي الأخرى مراجعة حساباتها، فمن يدري، ربما ينحو قادة النظام الإسلامي في طهران مناحي أكثر صرامة تجاهها، فتعود العلاقات بينهما إلى المربع الأول، لا سيما إذا وضعنا في الحسبان القاعدة التي تقول: لا يمكن أن تحمل ناراً وباروداً في يد واحدة، فإما أن تفصل بينهما وإما أن تتخلى عن أحدهما.
د ـ بموافقتها على إبرام صفقة التطبيع، تكون السعودية قد خسرت آخر أوراق القوة التي تمتلكها، والتي لا تزال الولايات المتحدة تقيم لها وزناً بفضلها.
إنّ تخلي السعودية والدول العربية الأخرى عن القضية الفلسطينية، سيصيبها بحالة انعدام وزن على المستويين الدولي والإقليمي.
هـ ـ إنّ من شأن نجاح إدارة الرئيس بايدن في إقناع ولي العهد السعودي بالمضيّ قدُماً في مشروع التطبيع، أن يوفر لها دعم اللوبي الصهيوني في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
و ـ لعلّ أكثر ما يؤرق إدارة بايدن حالياً هو اندفاعة السعودية السريعة نحو ترسيخ العلاقات مع الشرق، تحديداً مع روسيا والصين. تعتقد إدارة بايدن أنّ بوسعها وقف هذه الاندفاعة في حال نجحت بتوريط ابن سلمان في اتفاق التطبيع مع الكيان الإسرائيلي.
ز ـ الكيان الصهيوني، أشبه بالصبي اللقيط الذي يبحث عن أب يتبناه وينسبه إليه. إنّ اعتراف دولة الحرمين الشريفين بوجوده سيكون بمثابة هدية العمر له.
ح ـ للسعودية ثِقَل كبير في الوطنين العربي والإسلامي، ومن شأن تطبيع العلاقات بينها وبين كيان الاحتلال أن يشجع المزيد من الدول العربية والإسلامية على نحو هذا المنحى.
ط ـ تربط السلطة الفلسطينية في رام الله بالسعودية علاقات قوية، وبمقدور الأخيرة ــ فيما لو أرادت ــ أن تمارس عليها شيئاً من التأثير والنفوذ في ما خص الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لذلك تحرص كلّ من الولايات المتحدة و”إسرائيل” على جرّ السعودية إلى مستنقع التطبيع أملاً في جر السلطة الفلسطينية هي الأخرى.
ي ـ بالنسبة للولايات المتحدة و”إسرائيل”، لا خسائر تذكر من التطبيع مع السعودية، لأنّ مجرد اعتراف أي دولة عربية بـ “إسرائيل” هو مكسب “إسرائيلي” لا يمكن تفويته.
قطار التطبيع انطلق قبل عدة سنوات. وفي كلّ خريف يصل محطة من المحطات، حيث تجلس إحدى الدول العربية على مقاعد الانتظار ريثما تسمع صافرة الانطلاق، فتستقلّه ويمضي بلا صخب.
من يوقف هذا القطار؟ وكم من خريف بعد على “إسرائيل” أن تنتظر قبل أن يستقله كلّ العرب؟ وما وجهته النهائية؟ وهل صحيح أنّ السعودية بمجرد أن تحصل على غايتها ستنزع ورقة التوت الأخيرة عنها وتكشف ما كان وما سيكون بينها وبين تل أبيب؟
أسئلة عديدة، ربما تسفر الأيام المقبلة عن إجابات واضحة عليها، وربما تبقى رهن التاريخ.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى