أولى

الانتخابات اللبنانيّة ودكتاتوريّة قانونها !

 د. عدنان منصور _

من الطبيعي عندما يذهب المواطن اللبناني للإدلاء بصوته أثناء العملية الانتخابية، فإنه يذهب بملء إرادته لاختيار من يراه مناسباً لتمثيله في المجلس النيابي.

 هذا الاختيار يجب أن يكون متحرّراً من أيّ شرط، أو إكراه، أو قيد، من أيّة جهة أتت. لكن عندما نتوقف أمام قانون الانتخابات المعمول به في الوقت الحاضر، نستطيع القول إنه يقيّد الناخب الى حدّ بعيد، ويجرّده من حقه في انتخاب من يراه مناسباً، أو يتحفظ على من يراه غير مناسب.

 في دول العالم عندما تكون هناك منافسة بين الأحزاب والكتل، فإنّ كلّ حزب يضمّ الى لائحته حزبيين، من هم جديرون لتمثيل الشعب. هنا تكون الحرية مطلقة للناخب في أن يختار أعضاء اللائحة الحزبية الكاملة دون أيّ حرج او تردّد، طالما أنه يحبّذ هذا الحزب أو ذاك.

 لكن ماذا عن لبنان! السؤال الذي يُطرح هو: كيف يمكن للائحة تضمّ في داخلها خصوم الأمس، بكلّ ما فيها من تناقضات في الشكل والأساس، فيما الساحة السياسية على مدى سنوات كانت تشهد اتهامات وتخويناً، بين أطراف متباينة في التوجّه، وتبادل الشتائم والتجريح عبر منصات وسائل الإعلام، بين أطراف متباينة في التوجهات والمفاهيم وطريقة بناء الدولة، وإدارة الحكم والمؤسسات؟! ومن الذي يضمن بعد الانتخابات ان لا تعود «حليمة لعادتها القديمة»، وتعود معها الخلافات العميقة، فيبقى المواطن يتفرّج على مشهد معيب، لا حول ولا قوّة له!

 كيف يمكن للمواطن اللبناني أن يلتزم مكرهاً بلائحة تضمّ أشخاصاً أكفاء، مشهوداً لهم بنزاهتهم ووطنيتهم، وصدقيتهم، وعملهم الدؤوب، وفي الوقت ذاته تضمّ مرشحين مشبعين بالفساد، حيث سيرتهم وسجلهم الأسود على كلّ شفة ولسان !

 أيّ خيار هو هذا الخيار الذي تركه قانون الانتخابات للمواطن كي يختار الشريف النزيه، ويبعد الفاسد، ويحاسبه في صندوق الاقتراع؟!

 ألم يضع القانون الحالي الناخب بين خيارين: إما أن يختار كامل اللائحة، واما أن يبقى في بيته! وفي كلتا الحالتين، فإنّ حرية الاختيار قد اغتيلت مسبقاً على يد قانون الانتخابات، من خلال دكتاتورية الإكراه التي فرضها على الناخب، ولم تترك له مجالاً كي يعبّر فعلاً عن ضميره، وإرادته وتوجّهه، في ما يراه مناسباً، ويريده ويختار هذا أو ذاك.

 أين حرية الاختيار للمواطن. عندما يفرض عليه ان يحمّل ضميره وزراً رغماً عنه، ويجبَر على التصويت لمرشح فاسد ما، كانت له صولاته وجولاته في سرقة ونهب المال العام والخاص؟!

 قانون الانتخابات الحالي من أسوأ قوانين الانتخابات التي لم تشهد دولة في العالم مثيلاً له. فهذا القانون ولد إحباطاً لدى شرائح شعبية واسعة وكبيرة. فهو بتركيبته، وأهدافه، عزز الطائفية، وجذّرها لدى الناخب، بحيث لم يعُد النائب، «نائبَ الأمة»، بمقدار ما هو نائب الطائفة، والمذهب، والمنطقة، والمدينة.

كثيراً ما نرى من سلوك نواب عديدين يتصرّفون ويتعاطون من خلال مفهوم ضيّق طائفي ومناطقي، بعيداً عن المفهوم الوطني الشامل المفروض أن يتحلى به ممثل الأمة. فالانتماء عند هؤلاء للعائلة، والمنطقة، والإقطاع السياسي، ولطبقة الرأسماليين المتوحّشين، أكبر بكثير من الانتماء الحقيقي الى الوطن والشعب…

ألا يشجع قانون الانتخابات الحالي، على تحريك الغرائز الطائفية، لتصبح المعركة الانتخابية بين ممثلين عن الطوائف، وليس بممثلين عن الوطن الجامع الموحد !

ألا يتيح هذا الواقع للبعض ـ إذا ما دام ـ بأن يرفعوا نبرة أصواتهم في ما بعد للمطالبة بشكل صريح وعلني بالفدرالية الانتخابية وفق معيار طائفي بحت؟!

 إذا كانت الدكتاتورية سلطة الأمر الواقع، وكبت الأفواه والحريات، وقراراتها ملزمة للجميع، وغير قابلة للطعن او الرفض، فإنّ قانون الانتخاب الحالي يجسّد هذه الظاهرة الدكتاتورية، لأنه لم يترك حرية القرار للناخب، كي يختار من يريد اختياره، فكان عليه ان يضع أسماء كامل أعضاء اللائحة في سلة واحدة، وإنْ ضمّت في داخلها من تتصاعد منه روائح فساد كريهة.

 ديكتاتورية قانون الانتخاب عطلت حرية الانتخاب للناخب، وكبلته ووضعته بين خيارين أحلاهما مرّ:

 إما البقاء في البيت وهذا يعني مصادرة قراره الحر، وحقه في الانتخاب، وإما المشاركة في الاقتراع حتى لو أجبره القانون على التصويت لفاسد لم يقتنع به شكلاً ومضموناً.

 بين التزام البيت والذهاب الى صناديق الاقتراع، يبقى للفاسدين متسع كبير للفوز والعودة مجدّداً إلى المجلس النيابي. فالذين أفسدوا في الأرض، يصونهم ويحصّنهم قانون الانتخابات الحالي. لذلك لم يحاول حكام وزعماء وسياسيّو لبنان عن عمد وتصميم، تدارك سلبيات هذا القانون، أو إلغاءه أو تعديله بعد أكثر من أربع سنوات على إقراره وسَنّه. بل آثروا الحفاظ عليه بملء إرادتهم، لأنهم يعرفون جيداً انّ هذا القانون سيضمن حصص الكتل السياسية كلها، ويحافظ على التوازنات أياً كانت النسب، بحيث انّ هذه الانتخابات ستطلّ علينا بالوجوه نفسها، او غالبيتها. فإنْ غابت وجوه، سيحلّ مكانها وجوه الأبناء والأحفاد، والأشقاء، والأصهرة، وليبقى وضع لبنان بعد ذلك على ما هو عليه… أحزاب، وتيارات، وحركات، ووعود، وخطابات، تسمع ضجيجها، فيما المواطن المسكين المحبط المقهور، يظلّ أسير نظام فاشل مهترئ، ومنظومة قهر سياسية بالية، تجدّد دمها وحياتها بنفسها مع الربيع كلّ أربع سنوات!

إنّ أبشع الحالات عندما يتوهّم المواطن المسكين أنه يعيش في نظام «ديمقراطي» شكلاً، وتمارَس فيه الدكتاتورية بوسائل عديدة، وفي مجالات مختلفة وبأبشع الصور بخبث ودهاء. وما انتخابات لبنان، والقيود التي فُرضت على الناخب اللبناني بحكم مضمون وأهداف القانون، و»نعومته» إلا مظهر من مظاهر الدكتاتورية، التي تحدّ من حرية الناخب ليختار من يراه مناسباً، او يحجب صوته عمّن لا يحوز على ثقته !

 لصالح مَن كان هذا القانون العجيب، ولصالح مَن أعطيت الضمانات؟! ألصالح الوطن والناخب اللبناني، ام لصالح المنظومة الطائفية، وطبقة الاحتكارات والاستغلال والنهب المنظم، والإقطاع السياسي، والتوريث العائلي؟

ما قامت به المنظومة السياسيّة على مدار أربع سنوات عجاف، أكلت الأخضر واليابس، وتركت وطناً يتندّر به العالم، وأذلّت شعباً جلبت له عطف العالم وشفقته، لا يناسبها إلا هذا القانون الرجعي بكلّ المقاييس، لأنه يضمن نفوذها، وتسلطها، واستغلالها واستمرارها !

 يبقى على المواطن الحرّ أن يقيّم أداء هذه المنظومة خلال السنوات الأربع الماضية، ليحكم عليها بنفسه وبكلّ تجرّد. عندها سيعرف حقيقة قانون الانتخاب وخلفياته، ومهندسيه، و»الإنجازات العظيمة» التي حققتها المنظومة السياسية الحاكمة!

 فأين موقع الناخب الحر الشريف بين هؤلاء، عندما يريد أن يدلي بصوته، وهو يرى الصورة السوداء تلفّ وطناً بأكمله، وشعباً يريد ان يبحث عن الخلاص؟! هل سيجد الخلاص في صندوق الاقتراع أم في جيوب الفاسدين…!؟

*وزير الخارجيّة والمغتربين الأسبق

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى