أولى

مظفر النواب شاعر الفقراء والغرباء وآخر قصائد الثوار…

محمد صادق الحسيني

شاعر ليس كسائر الشعراء، وأديب متفاوت عن سائر الأدباء، ومثقف ليس من طينة النخب..

إنه المسافر الغريب من سجن لسجن، لم يجد في الأرض محطة يستريح بها، فصرخة الرفض كانت تتلجلج على لسانه، تخنقه إنْ لم يصدح بها.

ولقد كان سخياً يأبى أن يحبس الكلمة في جوفه، فيطلقها وليحدث ما يحدث.

هكذا يكون الثوريّ عندما يصدُق مع نفسه، يصبح وحده قضية، لا يستوحش الطريق مهما طال أو بعُد، لم يكترث لأصحاب الفن الأدبيّ وهم يتساقطون ويتركونه وحيداً. لم يضعف أمام عطايا السلطان، نبذها بكرامة المناضل وبأنفة الفقير الزاهد، فكان بذلك متحرّراً من كلّ القيود، ينقد الحكام بوجوههم، لا يستثني منهم أحداً.

الشاعر والأديب الوحيد الذي عمل مراجعة جذرية في حياته..

الوحيد الذي لم يستكن ولم يهدأ أو يركد، كان يسابق الأزمان والعصور في البحث عن الحقيقة..

لم يتحجّم بمدرسة فكرية، ولم يخضع لتعاليم الماركسيّة التي انتمى اليها في شبابه، حيث وجد فيها ابتداء أنّ الفقراء هم الحركة الخالدة التي يجب أن يعيش من أجلهم، وانّ الماركسية قد تكون المذهب الذي ينقذهم.

وما أن أصبحت الماركسية السوفياتية عليه قيداً حتى انتقل الى معسكر الماوية المعادية للإمبريالية السوفياتية…

فذهب مع ثوار عزيز الجاج في جبال العراق شمالاً…

وما ان تكلّست هذه حتى خرج منها يسارياً حراً يحلق انّى يشاء…

وعندما انتصر إمام الاحتجاج والرفض ومرجع الزاهدين الخميني الكبير في ثورته على الشاهنشاه كلب حراسة أميركا وشرطي الخليج.

حتى رأى فيه عليّ زمانه وإمام الفقراء الذي كان يبحث عنه فذهب الى إيران وأعلن ولاءه بأعلى صوته لمذهب حركات التحرّر الفكريّ الجديد عند مرقد سلطان الأئمة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام واذرف هناك من الدمع ما لم يذرفها في حياته من قبل، وكان يومها يصرخ بأعلى صوته المتهدّج:

ها قد عدتُ إليك سيدي وإليكم سادتي والى أصلي وجذوري…

وعندما لم يحتمل استمرار الحرب الصدامية الأعرابية الكونية الظالمة المفروضة على إيران والشعب العراقي نادى بأعلى صوته في قصيدته الشهيرة “الأساطيل”:

يا جنودَ العَجم أيها الجُند ليسَ هنا ساحةُ الحرب بل ساحةُ الالتحامِ لِدَكِّ الطُغاة وتَصفيَةٍ لبقايا عُروشٍ تُوَسِّخُ في نَفسِها خائِفة أيها الجند بوصلةٌ لا تُشيرُ إلى القدسِ مشبوهَةٌ حَطِّموها على قُحفِ أصحابِها.

مظفر النواب صوت مقاوم بكى القدس بكلماته، وعرّى الحكام في تخاذلهم منها، فلاذوا بالصمت، وتواروا وراء الحجب يخشون مواجهة قصائده الغاضبة.

رحل مظفر النواب عن عالم الفقراء فاستوحشوا غيابه، وانطلقوا في موكب تشييعه يردّدون أبياته.

كان مظفر النواب مدرسة شعرية قائمة بذاتها، وكان هو آخر الشعراء المقاومين المخضرمين الذي مات وهو يسير بالاتجاه الصحيح…

شاعر كدح الى ربه كدحاً لملاقاته وهو في صادق في البحث عن اليقين… يقين الفقراء والكادحين الذين لم تأخذهم في الله لومة لائم.

كان وحده كتيبة متقدّمة في جيش تحرير فلسطين والقدس الشريف.

رحمه الله برحمته الواسعة وغفر له ما تقدّم وما تأخر من ذنوبه…

ستظلّ حياً بيننا يا مظفر بكلماتك وقصائدك الثوريّة النافذة قصائد الرفض والاحتجاج.

بعدنا طيّبين قولوا الله…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى