أولى

لبنان: مقاومة من أجل السيادة و«معارضة» تستبيحها!

 العميد د. أمين محمد حطيط _

من أبشع ما يعتمد في السياسة في لبنان هو تقليب الحقائق وتحريف الكلام عن مواضعه، واستعمال العبارة والمصطلح بعكس ما وضعا له أصلاً. نقول هذا وفي ذهننا ما يدّعيه البعض من أنه يعمل من أجل السيادة الوطنية وتنظر في فعله فتراه ينتهك السيادة ويعادي لا بل يقاتل من يعمل حقيقة من أجلها ثم يجعل نفسه أداة بيد الخارج المنتهك لهذه السيادة.

فللسيادة كما هو مستقرّ عليه مفهوم فلسفيّ وفقهيّ وقانونيّ، يوكد أنها امتلاك السلطة العليا على الذات بحيث لا يعلوها سلطة، فتكون الذات السيدة مقرّرة لنفسها وبنفسها بشكل مطلق لا يحده قيد ولا تنازعها سلطة أخرى ولا يفرض عليها إملاء صادر عن آخر.

وعندما نقول الذات فإننا نعني أيّ ذات وبمراتبها الأساسية الثلاث بدءاً بالذات القدسية العليا أيّ الله سبحانه وتعالى مروراً بالذات الإنسانية الطبيعية الفردية أيّ الإنسان الفرد، وانتهاءً بالذات المتشكلة اعتبارياً او معنوياً من جماعات أو إرادات وكيانات وعلى رأسها الشخصية الاعتبارية العليا التي تمثل الدولة.

والدولة كما هو متفق عليه في المبادئ السياسية والقانونية حتى والفلسفية هي الكيان الذي ينشأ نتيجة توفر عناصر ثلاثة هي الشعب والأرض والسلطة، والسيادة في الدولة هي أصلاً للشعب وتمارسها السلطة. فالشعب سيد نفسه ويختار او يقبل بسلطة تمارس هذه السيادة بحيث لا يكون في الدولة إلا سلطة واحدة هي السلطة العليا التي لا تعلوها سلطة والتي تقرّر للدولة ما تراه مناسباً لها دون ان يفرض عليها أحد قرار، وعندما نتحدّث عن السلطة فإننا لا ننسى تعدّد الأنظمة الدستورية التي بموجبها تتشكل السلطة ومدى ارتباط او انبثاق هذه السلطة عن الشعب او قبول الشعب بها او فرضها عليه او إذعانه لها.

إذن هناك تمييز بين صاحب السيادة ومن يمارسها. هكذا أجمعت دساتير الدول الحديثة بأن تضمّنت النص على انّ الشعب هو صاحب السيادة والسلطة هي من يمارس هذه السيادة بتفويض من الشعب، تفويض تفسّره نظرية العقد الاجتماعي الذي التقت عليه الفلسفة السياسية لتبرّر كيفية تنازل الفرد عن جزء من حريته وحقوقه لصالح المجتمع والسلطة الوحيدة القائمة فيه من أجل حماية ما تبقي له من حقوق وفي طليعتها الحق بالوجود والأمن.

بيد أنّ الفرد يتنازل للدولة أو بصيغة أدقّ للسلطة في الدولة عن بعض حقوقه من أجل أن تضمن له او توفر له كلّ ما تبقى له من حقوق. فالتنازل هذا هو تنازل مشروط، والشرط الرئيس هو امتلاك الدولة او السلطة في الدولة الطاقة والقوة والقدرة على حماية هذا الجزء المتبقي من الحقوق فإنْ قصرت السلطة في سعيها جاز لمن فوّضها او تنازل لها عن حقّ ان يستعيد بعض او كل ما تنازل عنه حتى يمارس بنفسه تلك الحقوق وبشكل خاص حق الدفاع المشروع عن النفس الذي ضمنته كلّ المواثيق.. هذه هي القواعد والمبادئ التي ترعى السيادة وممارستها. فأين لبنان من ذلك؟

في نظرة على الواقع اللبناني نجد أمرين هامين: الأول ضعف الدولة وعجز السلطة القائمة فيها عن توفير ما يتطلبه الوجود الآمن والعيش الكريم للشعب، والثاني استباحة لبنان وانتهاك سيادته من الخارج. فإذا أردنا ان نفصّل اكثر في هذا فإننا نتوقف عند نماذج صارخة لهذا الانتهاك ومنها:

ـ التدخل الأجنبي في تشكيل السلطة في لبنان وسير أعمالها،

حيث اعتاد لبنان على التدخل الأجنبي في تشكيل سلطته وبدل أن تكون السلطة نتاج إرادة شعبية كما يملي مفهوم السيادة الصحيحة، فقد اعتاد اللبنانيون علي التسليم والخضوع للقرار الأجنبي في اختيار من يلي الحكم بدءاً من انتخاب رئيس الجمهورية وصولاً الى انتخاب النواب وكذلك التدخل في تعيين الوزراء وتشكيل الحكومة. وقلّ ان تجد دولة في العالم يتصرف فيها السفراء الأجانب بالشكل الذي يتصرفون فيه في لبنان، حيث يكاد يظهر السفير الأميركي والفرنسي والسعودي وغيرهم من سفراء الغرب والعرب في لبنان يظهرون بمظهر المرجعية النافذة القرار والتعليمات والتوجيهات التي تعلو سلطة الدولة وتطيح بسيادتها.

ـ الفيتو الغربي على إقامة لبنان علاقات دولية مع الشرق.

إنّ من وجوه أعمال السيادة، كما هو متفق عليه هو حق الدولة في إقامة العلاقات الخارجيّة مع من تشاء من الدول الأخرى، لكن لبنان الخاضع للإملاءات الغربية وبشكل خاص للأميركية منها لا يستطيع أن يقيم علاقات مع الشرق خاصة الصين وإيران وروسيا لسدّ حاجاته ودعم اقتصاده، وفي الوقت الذي تشتدّ الحاجة اللبنانية لتلك العلاقات تشتدّ الضغوط الأميركية لمنعها وتنصاع السلطة في لبنان لتلك الضغوط في دليل إضافي على انّ فوق سلطة لبنان سلطة أخرى أجنبية تقرّر لها وتلزمها في أبشع صورة من صور انتهاك السيادة.

ـ منع لبنان من حلّ مسألة النازحين السوريين.

من المنطقيّ والطبيعيّ أن يقوم لبنان بالتنسيق مع سورية لتنظيم عودة النازحين السوريين الى وطنهم، خاصة بعد ان انتصرت سورية وأفشلت الحرب الكونية التي استهدفتها، ومن مصلحة لبنان أن يتخفف من عبء مليون ونصف مليون لاجئ سوري اليه، خاصة أنّ وجودهم يفاقم الأعباء على الوضع الاقتصادي اللبناني المنهار، إلا انّ الغرب وبقيادة أميركية يمنع السلطة اللبنانية من القيام بذلك ليستعمل النازحين ورقة لابتزاز سورية وترضخ السلطة لهذا الإملاء.

ـ العدوان “الإسرائيلي” وانتهاك السيادة بوجوهها المتعددة.

منذ قيامها مغتصبة لفلسطين دأبت “إسرائيل” على الاعتداء على لبنان في كلّ الميادين براً وبحراً وجواً. وقد بات العدوان “الإسرائيلي” المستمر والمتمادي يشكل وجهاً من أبشع وجوه انتهاك السيادة اللبنانية، حيث إنّ “إسرائيل” تحتلّ أرضاً في لبنان منذ العام ١٩٦٧ ووصلت باجتياحها الى بيروت في العام ١٩٨٢ وتسيطر على الأجواء اللبنانية التي حوّلتها الى فضاء تدريب لطيرانها ومنصات اعتداء على سورية، وكذلك فإنّ تصرفاتها البحرية ومنعها الشركات الأجنبية من التنقيب عن الثروات النفطية في المنطقة الاقتصادية اللبنانية الخالصة، كلّ ذلك يشكل انتهاكاً صارخاً للسيادة اللبنانية، انتهاكاً وقفت الدولة اللبنانية عاجزة أمامه، لا بل انها خضعت في العام ١٩٨٣ للإملاء الأميركي ووقعت مع “إسرائيل” اتفاقية ١٧ أيار التي تتنازل فيها الدولة عن سيادتها في الجنوب لمصلحة العدو، وتقف الآن مكتوفة امام ملف الحدود البحرية واستخراج النفط والغاز.

في مواجهة هذا الانتهاك “الإسرائيلي” المتمادي والعجز الرسمي اللبناني، بادرت فئة من اللبنانيين للدفاع عن سيادة لبنان حيث عجزت السلطة اللبنانية، وبالتالي انّ هذه المبادرة المقاومة للانتهاك تعتبر تعبيراً صحيحاً عن ممارسة حق ووجهاً من وجوه الدفاع عن السيادة التي انتهكها العدو وقصرت سلطة الدولة عن حمايتها ولا يكون في هذا التصدي انتهاك للسيادة، كما يدعي المرجفون، بل يكون خدمة وطنيّة لحماية السيادة التي عجزت سلطة الدولة عن صيانتها.

إنّ قيام المقاومة بالمدافعة عن الأرض والحقوق والثروة يكون فعلاً من أجل صيانة السيادة في ظلّ عجز الدولة عن ذلك، بينما يكون التقاعس عن ممارسة الحقّ المشروع بالدفاع عن النفس بعد عجز سلطة الدولة عن ذلك يكون تفريطاً بالسيادة خلافاً لما يدّعيه البعض من أدوات السفارات في لبنان والذين يطلقون على انفسهم زوراً تسمية “سياديين” وهي تسمية معاكسة للحقيقة. ويكون التصويب على المقاومة تفريطاً بالسيادة وخدمة للعدو وانصياعاً للخارج. فالمقاومة هي بصدق “مقاومة من أجل السيادة” في مقابل مدّعي السيادة الذين هم في الحقيقة أتباع وعملاء للسفارات ومرتزقة لدول أجنبيّة تهدف الى تجريد لبنان من عناصر قوته واستباحة سيادته.

إنّ لبنان من دون المقاومة يعيش وللأسف العجز والعدوان وانتهاك السيادة، واقع لا يمكن أن يعالج إلا عبر إقامة الدولة المدنية القوية العادلة القادرة التي تؤمّن للشعب حقوقه وفي طليعتها الوجود الآمن والعيش الكريم عبر إلغاء الطائفية السياسية واعتماد قانون انتخاب وطني خارج القيد الطائفي ثم بناء الجيش القوى الذي يستطيع ان يواجه الأخطار الداخلية والخارجية وتأكيد تقييد السفراء الأجانب بحدود صلاحياتهم وفقاً لاتفاقية فيينا..

نعم نقول إنّ لبنان في واقعه القائم هو دولة منتهكة السيادة ولا يوجد فعلياً ومضة مضيئة في أفقها لحفظ هذه السيادة إلا المقاومة التي امتنعت عن ممارسة السلطة وركزت على مواجهة العدوان الخارجي، يساندها في ذلك قسم كبير من الشعب هو الأكثرية الوطنية الواضحة وتتكامل مع الجيش اللبناني ليكتمل عقد ثلاثية قوة لبنان “شعب وجيش ومقاومة” في حماية السيادة، ثلاثية تشكل حاجة للبنان حتى بناء الدولة القادرة دون التوقف عند نعيق الناعقين.

*أستاذ جامعيّ ـ باحث استراتيجيّ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى