أولى

التعليق السياسي

بين قمّة جدّة وقمّة طهران والبحار الخمسة

لا تتبارى جدّة وطهران أو تتنافسان عبر القمتين، التي استضافت جدة واحدة منهما، فيما تستضيف طهران اليوم الثانية، لأن الحوار بين العاصمتين واعد والمناخات إيجابية، وكما يبدو بعد قمة جدة فإن السعودية أخذت بالاعتبار مع ضيفها الأبرز في قمة جدة الرئيس الأميركي جو بايدن، المحاذير الرئيسيّة التي تهتم لها طهران، وتلك التي يهتم لها الضيف الأبرز القادم الى طهران، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

عملياً لم يستطع الرئيس الأميركي جر السعودية لتتحول الى خط تماس متقدّم لكيان الاحتلال مع إيران، كما كان يأمل وينتظر منه الإسرائيليون، رغم ما نعرفه ويعرفه العالم عن مستويات عديدة للعلاقات بين السعودية وإسرائيل، وعن الغطاء السعودي لعمليات التطبيع الخليجيّة التي تمت مع الكيان، وعملياً أيضاً لم يستطع الرئيس الأميركي نقل السعودية الى ضفة التصادم مع الشريك في سوق النفط الذي تمثله روسيا، سواء عبر الدعوة الأميركية لإخراج روسيا من صيغة أوباك بلاس، أو عبر مطالبة السعودية بقيادة حرب أسعار شبيهة بتلك التي خاضتها خلال الحرب على سورية وفق معادلة تتحمل خلالها السعودية خسائر مالية بخلفية تدفيع روسيا مثلها، وقد بدا واضحاً هذه المرة أن الأولوية السعودية في سوق النفط هي ضمان مواصلة التنسيق مع الشريك الروسي لا إعلان الحرب عليه.

تأتي أهمية قمة طهران من كونها تختلف جذرياً عن قمة جدة، فهي ليست قمة الطلبات الروسية من إيران، بلغة الإملاء والإمرة. فالعلاقة التي تربط أركان قمة طهران، وخصوصاً بين موسكو وطهران، هي علاقة تحالفية ندية، وهي علاقة تكاملية لجهة تبادل الحاجة وغياب الاستغلال والخداع والتلاعب عن تاريخ هذه العلاقة، التي قدمت خلال الحرب على سورية أعلى مراتب ومستويات المصداقية.

قمة جدة جاءت تحاول إنقاذ الهيمنة الأميركية من بوابة التذاكي السياسي الأميركي، وخلفيات ضغط العامل الانتخابي، بينما تأتي قمة طهران تعبيراً عن سعي ركنيها الروسي والإيراني وضع خريطة طريق للنهوض بعالم جديد، سواء بتكامل جغرافيا الشمال والجنوب سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وبناء خطوط للتجارة العالمية لا تمر تحت الضوابط والعقوبات الغربية، وصولاً لبناء أسواق لا يعتمد فيها الدولار، وترتكز على العملات الوطنية للدول، من روسيا الى الصين والهند وإيران وسواها.

حضور الرئيس التركي رجب أردوغان للقمة يفتح الباب للجمع بين التعاون الاقتصادي الروسي والإيراني مع تركيا، الذي بات يمثل العصب الرئيسي لاقتصادها، وبين مشروع سياسي أمني اقليمي يعرضه كل من الرئيسين الروسي والإيراني على الرئيس التركي انطلاقاً من سورية، حيث إنهاء التصادم بين الرؤيتين الروسية والإيرانية مع الرؤية التركية يمهد لقيام نظام إقليمي قوي وفاعل، تشكل سورية الموحّدة والقوية والسيدة نموذجاً متقدماً له، وهو نظام إقليمي يستطيع اجتذاب شركاء آخرين، من آسيا الوسطى والشرق الأوسط، تنال فيه تركيا مكانة سياسية واقتصادية على قاعدة الشراكة وتبادل المصالح.

ثمة مشروع يعيش الاحتضار الاستراتيجي، بانت عليه أعراض الإنهاك والإعياء في جدة، ومشروع استراتيجي ستظهر حيويته ومصادر قوته، ويؤكد تفوقه الأخلاقي يطل اليوم من طهران، بصفته ليس مشروعاً استعمارياً، بل مشروع للشراكة يقوم على الاحترام المتبادل لسيادة الدول أولاً، والندية بين الشركاء ثانياً، وتبادل المصالح ثالثاً.

ما سيتصدّى له الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والسيد ابراهيم رئيسي، هو ترجمة لمشروع البحار الخمسة الذي طرحه الرئيس السوري بشار الأسد قبل ثلاث عشرة سنة، ولذلك هو مطروح للحوار مع الشركاء الخليجيين لروسيا وإيران، وليس لمواجهتهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى