أولى

الحدود اللبنانيّة: التعامل والتداول الخاطئ يضيّع الحقوق

} العميد د. أمين محمد حطيط*

منذ العام 2000 وملف الحدود اللبنانية يطرح طرحاً تحاول «إسرائيل» فيه التملص من الأحكام والمعاهدات والاتفاقيات الثابتة التي تحدّد حدود لبنان بشكل نهائي وتحاول إبدال الحدود الدولية الثابتة والنهائية مع لبنان بخطوط وهمية غير متفق عليها تفتح الباب أمام تفاوض يؤدي الى تمكين «إسرائيل» من قضم أرض هنا ومياه هناك والمسّ بالسيادة والحقوق الثابتة.

وكانت البداية في العام ،1967 حيث أقدمت «إسرائيل» ومن جانب واحد على إلغاء اتفاقية الهدنة الموقعة بينها وبين لبنان في رودس في العام 1949 اثر حرب الإنقاذ التي شارك لبنان فيها الى جانب جيوش من ست دول عربية خسرت يومها الحرب مع العصابات الصهيونية التي تشكل منها الجيش «الإسرائيلي» لاحقاً، اتفاقية الهدنة تلك التي ألغتها «إسرائيل» من جانب واحد كانت قد نصت على أنّ خط الهدنة هو نفسه خط الحدود الدولية المعترف بها بين لبنان وفلسطين والمبين باتفاقية «بوليه نيوكمب» الموقعة في العام 1923 بين فرنسا وبريطانيا الطرفين المنتدبين والمودَعة لدى عصبة الأمم وفقاً للأصول بعد ذلك.

ألغت «إسرائيل» اتفاقية الهدنة رغم انّ لبنان لم يشارك بحرب 1967 وبدأت بعد ذلك بقضم أرض لبنانية في مزارع شبعا دون ان يتصدّى لها أحد! لقد ألغت اتفاقية الهدنة للتملص من قيودها التي تؤكد على الحدود الدولية وتمنعها من أيّ عمل عدواني تجاه لبنان خاصة أنّ تلك الاتفاقية اعتمدت تنفيذاً لقرار من مجلس الأمن متخذ تحت الفصل السابع، إلا أنّ «إسرائيل» لم تعبأ بذلك وألغت الاتفاقية وفي ذهنها إسقاط الحدود الدولية والبحث عن خط حدودي جديد يعطيها مكاسب في الأرض على حساب لبنان.

وهذا ما حاولته «إسرائيل» في العام 2000، حينما أعلنت أنها وبعد 22 عاماً من احتلال أراض لبنانية في الجنوب تريد الانسحاب تطبيقاً للقرار 425  الذي صدر في العام 1978 بعد احتلالها لتلك الأرض وألزمها بالانسحاب الى الحدود الدولية دون قيد او شرط، لكنها لم تستجب للقرار واستمرّت في احتلالها الى أن تمكّنت المقاومة من تضخيم كلفة الاحتلال وأجبرت «إسرائيل» على الانسحاب الذي نفذته في أيار 2000 مدّعية كذباً أنها تنفذ قراراً دولياً بينما هي في الحقيقة تفرّ من جحيم صنعته لها المقاومة ولم تحتمل الاستمرار فيه.

في معرض البحث عن مخرج لها، استعانت «إسرائيل» بالأمم المتحدة التي انتدبت منذ العام 1978 قوات عسكرية مؤقتة ونشرتها في جنوب لبنان وأناطت بها مهمة مساعدة الجيش اللبناني في بسط سيادة الدولة على الأرض المحتلة عبر تسلم تلك الأرض من الجيش «الإسرائيلي» وتسليمها الى الجيش اللبناني، وكان على الأمم المتحدة التي لجأت اليها «إسرائيل» لإيجاد المخرج لانسحابها ان تعمل بكلّ بساطة باتفاقية «بوليه نيوكمب» الموثقة والمودَعة لديها، وأن تعتمد الخرائط المرفقة بتلك الاتفاقية ثم تتأكد من وجود المعالم الحدودية في مكانها الصحيح على الأرض لإنتاج الخط الحدوديّ الذي يتمّ على أساسه التحقق من اكتمال الانسحاب.

بيد أنّ الأمم المتحدة لم تعمل بهذا المنطق البديهي وعملت بما تطمح اليه «إسرائيل» واتجهت الى رسم خط آخر أسمته «خط الانسحاب» وادّعت أنها اعتمدت أدقّ الخرائط والوثائق لرسم هذا الخط، وعندما دققنا في هذا الخط وكنت أنا رئيساً للجنة العسكرية اللبنانية التي أناط بها لبنان العمل مع الأمم المتحدة وقواتها اليونيفيل للتحقق من الانسحاب، تبيّن لنا انّ الخط الذي تقترحه الأمم المتحدة وفريقها التقني برئاسة رئيس قسم الخرائط في الأمم المتحدة الاميركي ميكولاس بنتر، انّ هذا الخط يختلف عن خط الحدود الدولية في 13 منطقة تتجاوز مساحتها الـ 20 مليون متر مربع، فرفضنا هذا الخط وهو خط غير قانونيّ وتمسكنا بالحدود الدولية التي نراها وحدها الصالحة.

في نهاية المطاف سلّم الطرف الدولي بموقفنا وأقرّ بحقنا بالتمسك بالحدود الدولية وادّعى بانّ خطه له وظيفة واحدة هي التحقق من الانسحاب فرفضنا اعتماده حتى يُعاد النظر به ليطابق الحدود الدولية وقد تمّت تلك المراجعة ووافق الفريق الدولي على اعتراضاتنا وتراجع عن خطه في 10 مناطق وتمسك بـ 3 مناطق هي مثلث رميش وتلة العديسة/ مسكاف عام وخط السليل في المطلة، مناطق لا يوجد فيها احتلال إلا في مسكاف عام، فرفضنا الموقف الدولي وتحفظنا عليه في المناطق الثلاث المذكورة، بعد ذلك قام الفريق الدولي بطباعة خريطة بيّن عليها خطه باللون الأزرق ونشأت بذلك تسمية الخط الأزرق وعندما قدّمها لنا رفضنا الفكرة مجدّداً وأصرّينا على انّ لنا حدوداً واحدة هي ما تحدّده اتفاقية «بوليه نيوكمب» وعندما أجاب الدوليون بالموافقة وانّ الخط هو فقط خط عملي للتحقق من الانسحاب ليس أكثر أصرّينا على ذكر ذلك خطياً وفرضنا أن تحمل الخريطة عبارة «انّ هذا الخط هو خط وهمي لا يمسّ بالحدود الدولية المعترف بها ولا يؤثر في أيّ حال على الحقوق المكتسبة الناشئة»، فاستجاب الفريق الدولي للطلب اللبناني وضمّن خريطته العبارة تلك وأشار الى التحفظات اللبنانية الثلاثة.

بيد انّ المكر «الإسرائيلي» والدعم الدولي لـ «إسرائيل» وتغافل لبنان بعد ذلك جعل الخط الأزرق هو الخط المتداول إعلامياً وفي القرارات الدولية رغم أنه كما أشرنا خط وهمي غير اتفاقي ولا قيمة قانونية له، وغيّب مصطلح الحدود الدولية المعترف بها والمؤكد عليها اتفاقياً وإيداعاً في الأمم المتحدة، والسبب في ذلك هو رغبة «إسرائيل» بإسقاط تلك الحدود والتوجه الى إعادة ترسيم جديد للحدود البرية يمكنها من وضع اليد على مناطق في لبنان تدّعي أنها ذات مزايا دفاعية تريد ان تستفيد منها، وبالفعل من يدرس طبيعة المناطق التي تحاول «إسرائيل» سلبها من لبنان، حتى أنها عرضت في العام 2000 مبدأ تبادل الأراضي للحصول عليها، يجد انها رؤوس التلال أو اودية تشكل ممرات إجبارية او مناطق غنية بالمياه الجوفية كما هي حال مثلث رميش.

هذا في البرّ حيث أعود وأؤكد انّ حقّ لبنان ومصلحته تتمثلان بالتمسك بحدوده الدولية المكرّسة باتفاقية «بوليه نيوكمب» ورفض أيّ طرح للتخلي عن تلك الحدود او العودة الى ترسيم بري جديد ففي هذا الفعل انْ حصل خيانة وطنية وتخلّ عن حقوق ثابتة معترف بها دولياً.

أما في البحر، فيبدو أنّ المسألة التي يدور حولها التجاذب أصعب وأدهى في ظلّ عدم وجود حدود بحرية أصلاً خاصة أنّ مصطلح المنطقة الاقتصادية الخالصة وحدودها البحرية هي مفاهيم قانونية جديدة نشأت بعد ان اعتمدت اتفاقية «قانون البحار» في العام 1982، والتي انضمّ لبنان إليها ولم تنضمّ إليها «إسرائيل».

ومن خلال مواكبتي لما يجري بصدد الترسيم البحري، يبدو لي انّ لبنان مهدّد بخسارة حقوق تكرّسها له القوانين بعد ان غادر مواقع القوة القانونية وغرق في مستنقعات السياسة والمساومة يحاوره فيها أميركي ـ «إسرائيلي» يعتمد سياسة المماطلة والتسويف والقضم المتتابع وفرض التنازل على لبنان، ونسجل حتى الآن السلبيات التالية في الموقف اللبناني:

ـ عدم التمسك لا بل التخلي عن المرجعيات القانونية التي يعتمد عليها دولياً في الترسيم البحري وهي في الحالة اللبنانية اتفاقية «بوليه نيوكمب» واتفاقية الهدنة وقانون البحار والاجتهادات القضائية الدولية.

ـ القبول بترسيم حدود بحرية غير قانونية لا تستند الى أيّ مرتكز قانوني وأقلّ ما يُقال فيها إنها حدود تسووية سياسية واهنة لا قاعدة قانونية تحميها، وهذه هي حال الخـط ٢٣ الذي بات كما هو معروف او متسامع به هو سقف المطالب اللبنانية وهو خط لا يتصل بالبر ولا يعتمد قاعدة رسم خط الوسط كما ينص قانون البحار.

ـ الاتجاه الى تجزئة الملف بين حدود اتفاقية غير قانونية وخط أمني او خط عوامات او خط أزرق بحري وهذه بدعة لا يوجد مثيلها على الكرة الأرضية. تجزئة تمكن «إسرائيل» من الحصول على مكاسب أمنية واقتصادية انطلاقاً من الإقليم اللبناني.

والخلاصة يكون لبنان، خاصة بعد الانقلاب الذي حصل على القرار 1701 بالقرار 2650 وما تضمّنه من أحكام جديدة لعمل اليونيفيل تمسّ بالسيادة، ومن تأكيد على الخط الأزرق وتغييب لخط الحدود الدولية، وبعد التنازل عن الخط 29 وهو الخط القانوني في البحر والاتجاه الى القبول بترسيم بحري غير مستند للمرجعيات القانونية الثابتة، يكون لبنان قد فرّط بحقوق ثابتة مقابل وعود وأوهام غير مضمونة رغم ما يملك من قوة في أبعادها الثلاثة الرسمية والقانونية والميدانية.

*أستاذ جامعيّ ـ باحث استراتيجيّ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى