أولى

السلاح النوويّ والانتحار الجماعيّ وطائرة «يوم القيامة»!

} د. عدنان منصور*

 قال عالم الفيزياء وأبو النظرية النسبية ألبرت أينشتاين يوماً: «لا أعلم بأيّ سلاح سيحاربون في الحرب العالمية الثالثة، لكن سلاح الرابعة سيكون العصي والحجارة».

أينشتاين الذي شهد استخدام الولايات المتحدة للسلاح النووي للمرة الأولى في التاريخ، يومي 6 و9 آب 1945، وما أحدثته القنبلتان الذريتان اللتان ألقيتا على مدينتي هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين من دمار هائل، ومن ثم امتلاك الاتحاد السوفياتي عام 1949 وبريطانيا عام 1952 لهذا السلاح النووي، كان على يقين، انّ دولاً في العالم ستطوّر أسلحة الدمار الشامل، ما يكفي لتدمير الحضارة كلياً على كوكب الأرض، في حال اندلاع الحرب العالمية الثالثة لأيّ سبب كان.

 الحربان العالميتان الأولى والثانية اندلعتا في أوروبا، وانطلقتا منها، وها هي أوكرانيا ربما تكون المؤشر لحرب عالمية ثالثة، وكأنّ قدر أوروبا أن تكون موئلاً للحروب العالميّة!

 رحل أينشتاين عن عالمه عام 1955، وقبل أن يرى كلاً من دول فرنسا، والكيان «الإسرائيليّ»، والصين، والهند وباكستان، وكوريا الشمالية، تدخل النادي النووي من بوابته الواسعة.

 أوكرانيا اليوم هي الاختبار للدول العظمى، في ما إذا كانت قادرة على أن تتجنّب حرباً نووية أم لا. يوجد دائماً في العالم وعلى مدى التاريخ الطويل، من يغامر ويسعى الى الحرب لتحقيق أهدافه. هناك مَن يستفز، ومَن يحرّض، ومَن يُشعل الحروب ويؤجّجها، بدوافع وذرائع مختلفة، بمعزل عما إذا كانت هذه الدوافع والذرائع لها مبرّراتها القانونية أم لا.

 في أوكرانيا اليوم، يحبس العالم أنفاسه، بعد تطورات خطيرة وضعت الأمن القومي والسلام الدولي على المحكّ. فمَن المسؤول عن هذه التطورات والأحداث التي تعيشها أوكرانيا وأوروبا في الوقت الحاضر، ومَن هو المستفزّ والمحرّض، والمشجّع لها، للقيام بما قامت به، لتشكل تهديداً جدياً للأمن القومي لدولة عظمى، لا يمكن لها بأيّ حال من الأحوال أن تغضّ الطرف عنه، أو أن ترى وجودها واستقرارها يتعرّض لتهديد خطير، ثم تلتزم الصمت حياله دون أن يكون لها ردّ فعل طبيعي، لإبعاده عنها مهما كلف ذلك من ثمن.

منذ تفكك الاتحاد السوفياتي، وزوال حلف وارسو، وعين الولايات المتحدة على روسيا، بعد أن خلت الساحة الدوليّة لها، وأصبحت القطب الأوحد، ليتزعّم قيادة العالم لوقت، ويعمل بكلّ ما في وسعه لنشر مروحة الحلف الأطلسي شرقاً باتجاه روسيا بالذات، وضمّ المزيد من الدول الأوروبيّة الى الحلف من أجل تطويقها، وتحجيمها، وتقليص دورها العالمي، ومن ثم العمل بكلّ قوة على تفكيك الاتحاد الروسي. وما حرب الشيشان الانفصاليّة الأولى والثانية عامي 1994 و 1999 إلا النموذج الحيّ على ذلك.

 من دفع أوكرانيا الى الحرب في أوروبا وشجّعها، وحرّضها، ودعمها، وألّب الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي على روسيا ليستفزها في عقر دارها غير الولايات المتحدة!

 هل يتصوّر عاقل في العالم انّ موسكو سترضخ للأمر الواقع، وهي ترى ريشها يُنتف على يد واشنطن وحلفائها؟! في أوكرانيا تريد الولايات المتحدة أن تخيّر موسكو، بين أمرين أحلاهما مرّ: الإذعان لإرادتها والقبول بالحلول التي تطرحها، وإما حرب استنزاف طويلة الأمد تديرها بنفسها من خلال حلفها الأطلسي، والاتحاد الأوروبي، والدول الحليفة لها. فالأمران مرفوضان من روسيا، والحلّ للأزمة لن يكون أميركياً وإنما روسياً، حلّ يتلاءم ويضمن الأمن القومي لروسيا، ومصالحها الاستراتيجية العليا، ومجالها الحيويّ.

 حرب الاستنزاف التي لجأت اليها واشنطن، وحلفاؤها، تريد منها أن تكون طويلة الأمد بغية إنهاك روسيا، وإضعافها وتركيعها، وفرض الشروط عليها. لكن موسكو لا يمكن لها بأيّ حال من الأحوال، القبول باستمرار حرب الاستنزاف عليها، طالما لديها من مقوّمات القوة العسكرية، ما يمكنها من حسم الحرب الدائرة في أوكرانيا لصالحها.

 من هنا كان إنذار الرئيس الروسي بوتين الحاسم، من أنّ موسكو ستذهب بعيداً حتى وإنْ تطلب الأمر، استخدام السلاح النووي، لأنّ المسألة أصبحت مسألة حياة للأمة الروسية، في وجودها، ووحدتها، واستقرارها، وأمنها القومي.

 موقف بوتين الصارم غير قابل للمساومة، ولا يقبل التراجع. فالذي استفزّ روسيا وهدّدها، والذي حرّض رئيس أوكرانيا زيلينسكي، وجعل الاتحاد الأوروبي حصان طروادة للحرب الأوكرانية، وكان السبب المباشر في تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للشعوب الأوروبية، عليه أن يوقف الدعم العبثي لأوكرانيا، بذلك يبعد شبح الحرب العالميّة، وهي حرب اذا ما اندلعت ستدمّر العالم كله، وتقضي على حضارته.

 عام 1962، كان العالم على شفير حرب عالمية، بسبب نشر الصواريخ البالستية السوفياتية في كوبا، ومن ثم ردّ الولايات المتحدة في حصارها البحري للجزيرة، بعد قرار اتخذه رئيسها آنذاك جون كندي، حيث انتهت الأزمة بين واشنطن وموسكو في ما بعد، بتسوية أفضت الى سحب الصواريخ من كوبا، مقابل سحب الأسلحة الذرية الأميركية من قواعدها في تركيا وإيطاليا.

 إذا كان قرار استخدام السلاح الذرّي في أوكرانيا بيد روسيا، للحفاظ على وجودها وأمنها، فإنّ واشنطن بيدها أيضاً القرار الذي يمنع توسيع نطاق العمليات العسكرية الدائرة، وأخذ العالم الى حرب عالمية مدمّرة للجميع، وذلك بالتوقف عن دعم أوكرانيا عسكرياً، ومالياً، ولوجستياً، وبالتالي الأخذ بالاعتبار هواجس، وقلق روسيا، ومخاوفها، ووضع حدّ نهائي للسياسات والسلوك الاستفزازي العدائي الذي ما انفكّت الولايات المتحدة تسير عليه حيال روسيا، منذ تفكك الاتحاد السوفياتي وحتى اليوم.

 هل يخطو الرئيس الأميركي جو بايدن خطوة شجاعة كالتي خطاها يوماً، الزعيم السوفياتيّ نيكيتا خروشوف، وجنّب العالم أهوال حرب عالمية مدمّرة، أم أنه سيستمرّ بسياسات واشنطن العدائية حيال روسيا، ما يجبر القيصر الروسي بعد ذلك، على استخدام الأسلحة النووية التكتيكية، وربما الأبعد منها!

 في خضمّ هذه الأزمة المتفجّرة، هل أدرك الأوروبيون واتحادهم الأوروبي، أنهم دفعوا الثمن الباهظ في لعبة الحرب المدمّرة التي نسجتها الولايات المتحدة في أوكرانيا، وزجّت في أتونها أوروبا، دون أن تتحفظ هذه الأخيرة او تعترض، او تتريث، فكانت رغم إمكاناتها الهائلة، أداة في يد واشنطن وتلميذاً مطيعاً في منظومة سياسية وعسكرية، يديرها اليانكي الأميركي على مزاجه، ووفق أهدافه ومصالحه، حيث لا يهمّ أميركا إنْ ذهبت أوروبا ومعها دول العالم الى الجحيم! ما يهمّ اليانكي هو أن يبقى القطب الأوحد، الذي يدير العالم ويوجّهه على هواه، ليكون في خدمة مصالحه وأهدافه الاستراتيجيّة.

 هل يستطيع الاتحاد الأوروبي إيقاف الحرب الدائرة في أوكرانيا قبل فوات الأوان، والتي لا تزال تترك تداعياتها السيئة على اقتصاداته، ومعيشة شعبه، وأمنه الاجتماعيّ والقوميّ، ويتفادى ردود فعل وقائيّة عنيفة لدولة عظمى، يحتّم عليها عند الضرورة استخدام ما لديها من إمكانات وترسانة عسكرية نوعيّة، لوضع حدّ لحرب الاستنزاف التي أرادتها واشنطن لها، وإنْ تطلب الأمر اللجوء الى السلاح النووي.

 إذا ما توسّع نطاق الحرب الأوكرانية، تصبح المواجهة المباشرة بين القطبين الكبيرين أكثر احتمالاً، وعنفاً وخطورة. إذ انّ ايّ طرف من الطرفين لن يقبل بانتكاسة، او بهزيمة مهما كان نوعها وحجمها تجاه الآخر، وإنْ أدّى ذلك الى حرب عالمية ثالثة.

 قرار توسيع الحرب واللجوء عند الضرورة القصوى، الى استعمال السلاح النووي، هو بيد القيصر، لكن نزع فتيل الحرب النووية بيد الرئيس بايدن. فهل ينزعه كما نزعه يوماً خروشوف، ام أنه سيستمرّ بحرب الاستنزاف، جاعلاً من أوروبا وقوداً للحرب الأوكرانيّة، وهو على استعداد لأن يذهب بعيداً، وإنْ تطلب الأمر الصعود الى طائرته المسمّاة «يوم القيامة»، ليغامر ويقامر بحرب نووية يعرف أينشتاين مداها ونتائجها سلفاً، وإنْ لم يحضرها، كما يعرف أيضاً نوع السلاح الذي سيبقى في أيدي من يبقون على الحياة، حيث ستحلّ العصي والحجارة مكان طائرة أميركا، «يوم القيامة» بعد أن تهلك ومَن عليها.

 

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى