أولى

حزب الله يفتح باب التحييد الاستراتيجي مجدّداً فماذا في الخلفيات…؟

‭}‬ حسن شقير*
ما كاد تفاهم ترسيم الحدود البحرية اللبنانية مع العدو «الإسرائيلي» يخطو خطواته الأولى نحو خواتيمه المقبولة لبنانياً، حتى بدأت نيران الداخل والخارج تطلق عليه ـ وبغزارة لافتة ـ وتحديداً على من اعترف له القاصي والداني، والصديق والعدو، بأنه كان مكمن القوة الأساس، والمدماك الأهمّ في دفع العدو على تحريك مياهه الراكدة أولاً، ومن ثم إلى إقراره كتفاهم منفصل غير مباشر ومقبول لدى الدولة اللبنانية، وقد عنيت بذاك المُصَوَّب عليه «حزب الله».
لم يكن لدى هذا الأخير من أدنى شك، بأنه سيكون عرضة لسهام المزايدين، وتجنّي الحاقدين، وتربّص المتربّصين وناصبي الكمائن له على مفترقات الطرق… والتهمة باختلاف توصيفاتها تتمثل بـ «التفريط».
ردّ تهم «التفريط» ليس مدار بحثنا في هذه العجالة، ونفي تلك التهمة او دحضها او تجويفها، هو أمرٌ، كفيلٌ بأن يتصدّى له اثنان على أقلّ تقدير: تاريخ وحاضر وإنجازات أولئك «المتهمين»، وكذلك الأمر شهادات أعدائهم الأقربين والبعيدين منهم على حدّ سواء… والشواهد على ذلك، تكاد لا تعدّ ولا تحصى…
سنحيد في متن هذه السطور الآتية عن الغرق في ردّ تهم «التفريط»، ولنعد إلى التحييد، والذي يبدو بأنه بداية مسار متجدّد لاستراتيجية، كانت قد سارت على هديها المقاومة سابقاً.
منشأ استراتيجية التحييد تلك، كانت قد مرّت على المقاومة والشعب اللبناني معها، منذ ما يزيد عن ربع قرن من الزمن، ففي تسعينيات القرن الماضي، وتحديداً في بداية النصف الثاني من ذاك العقد الزمني، والذي كانت فيه قدرات المقاومة تزداد وبشكل مضطرد وسريع جداً… بحيث جعلت العدو يعود مجدّداً ليستخرج من جيب عدوانه ـ ما اعتاد على فعله ومنذ قيام كيانه المحتلّ ـ استراتيجيته المفضلة في تكثيف الضرب على وتر يعتبر بحقّ نقطة ضعف لدى المقاومة، وليحاول من خلال الإيغال فيه، التخفيف من أثر تلك القدرات ومفاعيلها عليه، وذلك إنْ على صعيد احتلاله في الجنوب والداخل «الإسرائيلي» معاً، أو على صعيد الصورة الأخطر التي بدأت تتشكل عنه في العالم، وبنتيجة طبيعية لتنامي تلك القدرات، ولتتمحور في تلك الصورة، تقهقر ما ادّعى يوماً بأنه «الجيش الذي لا يُقهر»، والذي سرعان ما انكشفت عوراته أمام تشكيل عسكري صغير، وفي بقعة جغرافية محدودة نسبياً!
إنّ الوتر الحساس الذي تحدثنا عنه، كان متمثلاً في حينه بالمدنيين القاطنين في قرى المواجهة، والذين كانوا عرضة للتجزير بعد كلّ عملية عسكرية تنفذها المقاومة على المحتلّ وعملائه… وليبقى الحال على ما كان عليه، إلى أن أطلق العدو عملية «عناقيد الغضب»، والتي ارتدّت بنتائجها، هزيمة على الكيان «الإسرائيلي»، وذلك من خلال تفاهم نيسان 1996، والذي شكل البذرة الأولى لاستراتيجية التحييد، والتي أسّست للتحرير والنصر الكبير في العام ٢٠٠٠.
إذن العام ١٩٩٦، هو عام البدء ـ إنْ جاز التعبير ـ في تحييد قدرات العدو التي لا تقاس قياساً بقدرات المقاومة، وهو العام الذي أرخت فيه المقاومة درعها الواقي على نقطة ضعفها شبه الوحيدة في ذاك العقد.
لقد كرّس انتصار العام ٢٠٠٦ واقعاً مختلفاً تماماً عن واقع ذاك الزمن الذي سلف، فلقد تكرّس نصر تموز، تحرير الأرض، والحماية لها، ومنع تغيير خارطة الشرق الأوسط برمّته، وليلحق ذلك، تزايد مهول في فائض القوة لدى المقاومة، وليفرض على العدو بأن يحسب بدقة معها كافة خطواته وإجراءاته، وخصوصاً على الصعيد العسكري، ولكنه في المقابل توغل وأوغل في جناحها الثاني، والذي هو، جناح الدولة وبيئاتها، مستخدماً عليهما كافة أسلحته غير العسكرية… كونه اعتقد بأنّ هذا الجناح، لا يزال ـ وكما كان في تسعينات القرن الماضي ـ نقطة ضعف طائر المقاومة الذي يحلق عالياً، وذلك بجعله، جناحاً نازفاً، يقابله في الجهة المقابلة، جناح فائض القوة، الذي يزداد قوة يوماً بعد يوم!
إذن لم يكن فصل البحر عن البر عن الجو في استراتيجية التحييد تلك، يأتي من فراغ، فاتفاق الترسيم، سيكون من مفاعيله، عند بدء تنفيذه والسير في تطبيق بنوده في الأسابيع والشهور المقبلة، تحييد إجباري لجبهة العدو البحرية، وما يتبعها من أسلحة كاسرة متعلقة بها لديه، الأمر الذي ستكون من نتائجه حكماً، تحوّل سلاح البحر لدى المقاومة إلى سلاح رادع، وذلك ضمن توازن للقوى معترف به في حينه، خاضع لقواعد اشتباك الشواطئ المفتوحة لدى المقلبين، بحيث ستصبح شواطئنا رافداً حيوياً لجناح الدولة والبيئات على حدّ سواء، وبما يضمن تضميد جراحهما معاً، وذلك بعد أن كانت قد نزفت لسنين طويلة.. ولأجل ذلك فقد أدرجت في تفاهم الترسيم ذاك ـ وإنْ مواربة ـ بنود تعنى برفع الحصار المقنّع عن لبنان وكسر العقوبات المفروضة عليه، فهذا الأمر، لم يكن من فراغ مطلقاً.
من هنا… نحن أمام زمن التحييد من جديد، تحييد الثروة داخل المياه، وتحييد الشواطئ التي ستتدفق إليها، هذا فضلاً عن تحييد تبعاتها الإيجابية على لبنان بأسره عن أيّ ضرر أو اعتداء يلحق بها، وذلك كله ضمن قاعدة فرضت على العدو فرضاً، قوامها: شواطئ مفتوحة على الدوام.
وفي هذا السياق، فقد ذكر وزير حرب العدو بني غانتس قبل أيام ما حرفيته: «الترسيم مع لبنان لا يعني نهاية النزاع معه، فالخلافات الأخرى لم تكن ملحقة بهذا الأمر»، فهذه حقيقة، لا ينكرها حتى العدو.
أسئلة تفرض نفسها، وبقوة: ماذا بعد تحييد البحر وما فيه؟ وهل ستفتح لاحقاً مسألة تحييد الجو؟ أم أنّ هذه المعركة تنتظر أوانها؟ فهل يمكن لها أن تسير جنباً إلى جنب مع معركة تضميد جراح جناح الدولة والبيئات معاً؟ أم أنّ هذه ستتقدم على تلك؟
لسنا في وارد تخمين تقدير الزمن اللاحق لاستراتيجية التحييد البحرية تلك، كما أننا لسنا في موقع وعقل صاحب القرار لدى المقاومة، إلاً أنه ـ ومن الثابت لدينا ـ فإنّ تحييد الحصار والعقوبات عن لبنان، قد كفلته تلك الاستراتيجية المُشار إليها، لا بل أنّ الضمان الوحيد لعدم تلكؤ العدو أثناء التنفيذ، سيقابله ساعتئذ أمرٌ مستجدّ، غاية في الأهمية، ألا وهو «دولنة» الفعل المقاوم هذه المرة، كون التفاهم المشار إليه، ستوقعه دولة لبنان، وليست مقاومته، وذلك كما جرى في العام ١٩٩٦.
وبناء على كلّ ما تقدم، يبدو أنّ التحييد في المرحلة المقبلة سينسحب على الكثير الكثير من الملفات السياسية والاقتصادية الداخلية، كون ذلك سيصبح مدخلاً لتضميد جراح الدولة من جهة وبيئاتها الشعبية من جهة أخرى.. فالاستحقاقات الكبرى المنتظرة في لبنان، سواء استحقاق الانتخابات الرئاسية والحكومية، وصولاً إلى العسكرية والإدارية، لا بدّ لها أن تتماهى مع استراتيجية تحييد الحصار والعقوبات عنه، فلا يمكن لتلك الاستحقاقات أن تتضارب معها بأي حال من الأحوال… فما قبل التوقيع على الترسيم البحري لن يكون حتماً كما بعده، والعبرة في الخواتيم…
*باحث وكاتب سياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى