الوطن

كيف أوجد لبنان حلولاً لأزماته المالية والمصرفية منذ الاستقلال ولماذا يعجز اليوم عن استعادة الثقة بقطاعه المصرفي؟

‭}‬ القنصل خالد الداعوق*
يعاني لبنان اليوم من أزمة اقتصادية ومالية خانقة وضاغطة على الغالبية الكبرى من المواطنين. أسباب هذه الأزمة عديدة ومتداخلة ومزمنة، ولن ندخل هنا في تشريح تفاصيلها المتشعّبة والمتداخلة بين الداخل والخارج وبين السياسة والاقتصاد، لكن العنوان الأبرز لإنعكاس هذه الأزمة يظهر بوضوح في القطاع المصرفي بشقّيه الرسمي والخاص، حيث ضاعت ودائع الناس وجنى أعمارهم، ولا يُعرف حتى الآن كيف يمكن أن تكون الحلول، ولا مَن سيتحمّل الخسائر التي لم يتمّ تحديدها بالضبط؟
هناك اقتراحات وأفكار عديدة تتطاير من هنا وهناك، تارة يُحكى عن حلّ مع صندوق النقد الدولي، ثم يُحكى عن التوجه شرقاً، وأخيراً أتى موضوع استخراج النفط والغاز الذي يعتبره البعض حلاً جذرياً لكلّ ما يعاني منه لبنان واللبنانيون، لكن هذا الأمر حتى لو كان صحيحاً فهو يحتاج إلى عدة سنوات لتبدأ مفاعيله، بينما الأزمة الضاغطة والخانقة لا تنتظر والمواطنون ليس لديهم ترف الوقت ولا هم قادرون على الانتظار، بل يريدون حلولاً ومعالجات سريعة وملحّة لمشكلاتهم اليومية خاصة أننا دخلنا في موسم الشتاء حيث تضاف على لائحة الهموم أعباء المدارس والتدفئة، فضلاً عن الهموم الدائمة في كيفية تأمين الغذاء والدواء والاستشفاء والسكن وغير ذلك مما لا يمكن الاستغناء عنه.
وبانتظار ما ستؤول إليه الأوضاع اللبنانية في الفترة المقبلة، خاصة على صعيد انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة، لا بأس من العودة قليلاً إلى التاريخ حيث مرّت على لبنان أزمات كثيرة في السابق، وفي كلّ العهود، فمنذ الاستقلال عام 1943 تعاقبت على الحكم شخصيات عدة لرئاسة الجمهورية، أوّلها بشارة الخوري وحكمه، حيث كان الدستور في ذلك الوقت يعطي الكثير من الصلاحيات للرئاسة الأولى، وعمّت الفضائح واستشرى الفساد في عهد الرئيس الخوري وعائلته وخاصة شقيقه سليم الذي لُقّب بـ «السلطان»، وهذا ما جعل الدولة مُسيّرة في خدمة آل الخوري وأنسبائهم وزمرتهم.
كما كانت بارزة جداً في البرلمان سيطرة آل الخوري، حيث كان التزوير والتدخلات على المكشوف في الانتخابات النيابية، وبالتالي خضع البرلمان لمشيئة الرئاسة الأولى، أما الحكومة فكانت بمثابة ألعوبة في يد الرئاسة الأولى من حيث انتقاء رئيس الحكومة من قبل رئيس الجمهورية، أو من حيث تجيير الثقة أو عدمها للحكومة كما يشاء رئيس الجمهورية نتيجة سيطرته على البرلمان. بعد الخوري جاء كميل شمعون وكانت له بطبيعة الحال كلّ الصلاحيات التي كانت لسلفه. في عهد شمعون لم يستشرِ الفساد كما كانت الحال في عهد الخوري، إنما كان شمعون مسيطراً على الحكومة وعلى البرلمان كما كان الأمر في عهد الخوري. وكان رئيس الوزراء بمثابة «باش كاتب» وهو الوصف الذي أطلقه الرئيس سامي الصلح على منصب رئيس الوزراء في حينه.
ثم جاء عهد الرئيس فؤاد شهاب الذي كان مسيطراً على الحكومة والبرلمان بواسطة المكتب الثاني، ولكن رغم ذلك وضع الرئيس شهاب في عهده الأسس لبناء دولة عصرية تمتلك المقوّمات الأساسية المطلوبة… من القضاء المستقلّ إلى مجالس شبه مستقلة عن الدولة للإعمار والمشاريع الكبيرة، كما أنشأ مجالس لمراقبة الأعمال ومشاريع الدولة.
ولكن في عهده أيضاً توسّع عمل المكتب الثاني، ويُقال إنّ الرئيس شهاب لم يكن على علم بكلّ الممارسات، إذ انّ المكتب الثاني بدأ عمليات الفساد آنذاك، وبدأ بعض الوزراء المقرّبين والموالين للعهد بالتدخل في الأمور الاقتصادية والمالية لـ «محاربة الأخصام والدخلاء» كما يُسمّون بعضهم بعضاً…
وكان أن شهدنا إفلاس عدد من البنوك منها البنك الأهلي والبنك العقاري وبنك لبنان والشرق الأوسط وغيرها حيث تدخّل الحاكم فيليب تقلا لعدم مساندة تلك البنوك المتعثرة، ما أدّى إلى إفلاسها ومَن على رأسها، ومنهم جورج دباس مثلاً الذي كان مهيّأ لأن يلعب دوراً سياسياً بارزاً. ثم طالت حكاية البنوك حتى وصل الدور إلى بنك أنترا أحد أهمّ البنوك ليس في لبنان فحسب بل أيضاً على المستوى الإقليمي والدولي أيضاً، وذلك من أجل وضع حدّ لسيطرة الفلسطيني الأصل يوسف بيْدَس. مع العلم أنه كان بإمكان البنك المركزي مدّ بنك أنترا بالسيولة، وكان يمكن أن يسوّي أحواله المادية، حتى يكمل بنك أنترا عمله كبنك كبير كما قلنا في لبنان والمنطقة، وله وصول أيضاً إلى المستوى العالمي.
وفي عهد شارل حلو كمّل المكتب الثاني تدخلاته في السياسة والفساد، وقد فتحت الحدود اللبنانية أمام كافة التنظيمات الفلسطينية والعربية وغيرها، وصولاً في نهاية عهده إلى اتفاق القاهرة عام 1969، ما أعطى إشارات منذ بداية عهد سليمان فرنجية أننا بدأنا شيئاً فشيئاً ندخل في أتون الحرب الأهلية التي انفجرت عام 1975.
وكان السياسيون كلّ في منطقته يسيطر على المرافئ العامة، ويأخذ حصته من عائداتها، كشركات الترابة في شكا، والمرفأ في بيروت، ومصفاتي النفط في طرابلس والزهراني، وكازينو لبنان، وهذا الأمر استمرّ وازداد خلال الحرب الأهلية، وهو لا يزال قائماً إلى اليوم بأشكال متعدّدة لكن الأساس أنّ العائدات لا تزال تذهب إلى السياسيين كلّ في منطقته وفي نطاق نفوذه.
في عهد الرئيس إلياس سركيس حاول أن يصلح ما يمكن إصلاحه في ملفات الفساد، وخاصة عندما أصبح سليم الحص رئيساً للحكومة، لكن السياسيين ورؤساء الميليشيات كانوا أشدّ قوة من الرئاستين.
ثم جاءت قوات الردع العربية وأساسها القوات السورية التي أصبحت في ما بعد تتدخل في كلّ الميادين السياسية والاقتصادية والمالية.
ثم جاء عهد إلياس الهراوي في 1989، وجاء معه منذ 1992 الرئيس الراحل رفيق الحريري الذي أتى من السعودية بهدف الإعمار فانتهى به المطاف إلى إلغاء الرقابة على المشاريع وإعمار وسط بيروت لشركة خاصة، وبدأت ورشة الإعمار في كلّ البلد من أنفاق وطرقات سريعة والمدينة الرياضية والمطار، والهاتف الخلوي واستيراد الفيول لمعامل الكهرباء وتثبيت التعرفة وغير ذلك… حيث دخل المقرّبون على أساس المحسوبية فتوسّعت أعمال السمسرة، وقد جنى هؤلاء ملايين الدولارات بأساليبهم الملتوية.
وتضخمت أعداد الموظفين، وازداد حجم القطاع العام أضعافاً مضاعفة، حيث تمّ توزيع الوظائف على المقرّبين والمحازبين المحسوبين على السياسيين. كذلك التدخلات في الأمور المالية حيث دفعت الدولة فوائد مرتفعة جداً على سندات الخزينة، وصلت إلى نحو 46 في المئة لمدة سنتين ونصف السنة، وقد استفاد من هذا الأمر أصحاب البنوك وبعض المحظوظين في الداخل والخارج من دون أن يدفعوا أيّ ضرائب على أرباحهم الطائلة.
ومنذ تلك الفترة حتى اليوم لا نزال نعاني من تراكم الدين العام الذي كان في عهد الرئيسين سركيس والحص لا يتجاوز المليار دولار، إلى أن أصبح اليوم فوق المئة مليار دولار.
كذلك انهارت البنوك والليرة وانهار الاقتصاد، وفُقدت العملات الصعبة، وصار التضخم قاتلاً، ولم يتمكّن السياسيون من إدارة الاقتصاد بشقّيه المالي والاقتصادي.
ولا شكّ أنّ الحلّ الأمثل لهذا الوضع هو الإدارة الرشيقة، بمعنى أن يُعرف من هم الموظفون في الدولة الذين لا حاجة لهم، وبذلك نكون قد عصرنا النفقات غير المجدية، ثم ان لا تتدخل الدولة في الأمور الاقتصادية بل تكون بمثابة دولة laissez faire، حيث ينشط الاقتصاد والقطاعات المالية حسب متطلبات السوق، لتكون الدولة للمراقبة، ويكون بيدها الأمن والسياسة الخارجية. ولا بدّ من إنشاء هيئة للضرائب والرسوم تكون مستقلة عن وزارة المالية وغير خاضعة لها، وكذلك القضاء يجب أن يكون مستقلاً كلياً عن الحكومة، وأن يُدار من قبل مجلس قضاء أعلى منتخب ولا سلطة للحكومة عليه ولا من وزير العدل.
يجب أن يكون هناك لا مركزية إدارية في البلد مستقلة عن الحكومة المركزية، وهذا ما نص عليه اتفاق الطائف…
تلزيم المرافق العامة الحيوية إلى شركات عالمية، وأقصد هنا المرفأ ومعامل الكهرباء ومؤسّسات المياه والمطار وشقّ الطرق السريعة والأنفاق وسكك الحديد وغير ذلك من المشاريع الكبرى على طريقة الـ bot، حيث تبقى الملكية للدولة لكن تدار هذه المرافق من شركات عالمية لها الخبرات والتجارب اللازمة، حتى تكون إنتاجيتها بالمستوى الذي يرضي اللبنانيين ويقدّم لهم الخدمات المطلوبة بجودة عالية وبأفضل الأسعار.
أما بالنسبة للمصارف فرأيُنا هو أنّ هذه المصارف متعثرة إنْ لم تكن مفلسة، وذلك نتيجة سوء إداراتها، وهذا ينطبق أيضاً على المصرف المركزي.
لذلك، على إدارات هذه المصارف بكلّ مجالس إداراتها وأيضاً مديريها وموظفيها الكبار أن يدفعوا ثمن سوء إدارتهم، وذلك بالحجز على كافة أصولهم المنقولة وغير المنقولة في لبنان والخارج، كذلك أموال أقربائهم الذين استفادوا منهم ومن مواقعهم ونفوذهم في القطاع المصرفي. ويجب كفّ أيدي هؤلاء الإداريين على الفور، وتسليم إدارة تلك البنوك إلى شركات مالية وحسابية متخصّصة في إدارة البنوك وتكون من أولوياتها دفع الودائع لأصحابها كاملة من دون تحميل المودعين أيّ خسائر أو «هيركات» وما شابَه، حيث أنّ المودع لم يساهم في التوظيفات المالية التي خسرت فيها البنوك أموالاً طائلة!
وفي رأينا أن لا فرق بين مودع كبير ومودع صغير، وعلى البنوك أن تدفع لكلّ المودعين في الوقت نفسه وبالنسب المئوية نفسها، وذلك يتطلب كما أسلفنا وجود إدارات جديدة لكلّ المصارف، حتى تعود الثقة إلى لبنان المالي والمصرفي بشقّيه الرسمي والخاص.

* أمين عام منبر الوحدة الوطنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى