أولى

لبنان بعد ميشال عون: من مركزية الطوائف الى لامركزية الفوضى؟

‭}‬ د. عصام نعمان*
اليوم، الاثنين 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2022 الساعة الثانية عشرة ليلاً، تنتهي ولاية رئيس الجمهورية العماد ميشال عون. معها تتصدّع ولاية نظام المحاصصة الطوائفي المفروض منذ ولادة “دولة لبنان الكبير” بقرار من سلطات الاستعمار الفرنسي سنة 1920.
يذهب الرئيس عون، فهل يذهب معه نظام المحاصصة الطوائفي؟
الأرجح انّ النظام سيبقى بعناوين سلطاته المجوّفة، لكن ركائزه السياسية والدستورية ستتهاوى تباعاً. أيّ نظام متصدّع يبقى بلا رئيسٍ للدولة، ولا حكومة مكتملة دستورياً وسياسياً، وبمجلس نوابِ بأعضاء متشرذمين وعاجزين عن توليف غالبية متماسكة وقادرة على التشريع والمراقبة، وبإدارة غير لاجمة لتعدّدية مرهقة حوّلت شعبه شعوباً متنابذة حيناً، متقاتلة حيناً آخر؟
لنستشرف بهدوء وموضوعية ما يمكن أن يتطوّر اليه المشهد السياسي اللبناني في المستقبل المنظور:
ـ مع شغور مركز رئيس الجمهورية، وغياب حكومة موثوقة كاملة الصلاحيات، ستتسع رقعة الفوضى لتشمل جميع المناطق والمرافق وأماكن العمران والسكان.
ـ مع اتساع رقعة الفوضى الشاملة تتزعزع مركزية الطوائف في مختلف ميادين الحياة العامة، ويتوطّد نفوذ اولياء الفوضى وأزلامهم.
ـ تداعي مركزية الطوائف يعني في الواقع انحسار أدوار أمراء الطوائف ونفوذهم على المستوى الوطني العام كما في ما تبقّى من أجهزة سلطةٍ مركزيةٍ متهرئة في العاصمة.
ـ توطّدُ لامركزية الفوضى يعني انتقال أجهزة السلطة من الحكومة المركزية وأجهزتها التنفيذية في المناطق الى أيدي زعماء الأحزاب والتنظيمات الأقوى شعبياً وأمنياً في نطاقها.
ـ في هذا المنظور، سنقع على غَلَبة وسيطرة لحزب الله وحلفائه في مدينة بيروت، ومنها يمتدان على طول الساحل الضيق لقضاء عاليه وقضاء الشوف وصولاً الى نهر الأوّلي، ومنه الى جميع مناطق محافظتيّ الجنوب والنبطية، ومنهما الى محافظة البقاع (باستثناء مدينة زحلة) ومحافظة بعلبك ـ الهرمل.
ـ في جبل لبنان، تكون اليد العليا في أعالي قضاءي الشوف وعاليه للحزب التقدمي الاشتراكي، وفي أقضية بعبدا والمتن الشمالي وكسروان وجبيل للتيار الوطني الحر على الأرجح.
ـ في محافظة الشمال، تكون اليد العليا في قضاء البترون (باستثناء المدينة) وقضاء بشري لحزب القوات اللبنانية وحلفائه، وفي قضاءي زغرتا والكورة لتيار المرده. أما في قضاءي الضنية والمنية وفي مدينتي طرابلس والميناء فيصعب التكهّن الآن لمن ستكون اليد العليا بالنظر الى تعدّد قوى الأحزاب والتنظيمات المتصارعة وتكافُئها.
ـ في محافظة عكار، يصعب التكهّن ايضاً لمن ستكون اليد العليا للسبب ذاته.
إلى ذلك كله، يجب أن نأخذ في الحسبان تدخلات القوى الخارجية (الولايات المتحدة ودول غرب أوروبا)، كما التدخلات الإقليمية (الدول العربية و”إسرائيل” وإيران وتركيا)، وما يمكن أن تتركه من تأثيرات وتداعيات في موازين القوى المحلية.
إنّ وضعاً داخلياً لبنانياً له كلّ هذه الأبعاد الدولية والإقليمية وما تنطوي عليه من تحدّيات وتعقيدات محلية مرشحٌ لأن يطول زمنياً وان يتعقّد سياسياً واجتماعياً، فما عساها تكون أفعال وردود أفعال الأطراف المتصارعة؟
دولياً، ستثابر الولايات المتحدة على اعتماد استراتيجيتها الراهنة الرامية الى دعم “إسرائيل” بدعوى حماية أمنها القومي ما يؤدّي عملياً الى بقائها في حال مواجهة مع أطراف محور الممانعة والمقاومة (إيران وسورية وحركات المقاومة في لبنان وفلسطين المحتلة). كما ستثابر على دعم حلفائها من الأكراد السوريين المتعاونين معها شرق الفرات وحلفائها من جماعات السوريين المعارضين للحكومة المركزية في دمشق وحلفائها السياسيين في لبنان المناوئين لحزب الله ولحلفائه الاقليميين.
روسيا ستثابر على دعم سورية في وجه الولايات المتحدة والى حدٍّ ما في وجه “إسرائيل” في حال تمادي اعتداءاتها، خصوصاً إذا ما صعّدت واشنطن تدخلات قواتها المتموضعة في شمال شرق سورية وجنوبها الشرقي بقصد تفكيكها الى كيانات تقوم على أساس قبلي او مذهبي او إثني.
إقليمياً، ستثابر إيران على دعم حلفائها (سورية وحركات المقاومة اللبنانية والفلسطينية) مالياً ولوجستياً بتزويدها بأكثر أسلحة صناعتها الوطنية تطوراً.
تركيا ستثابر على تنفيذ مخططها الرامي إلى بسط سيطرتها على مناطق سورية الشمالية المحاذية لحدودها الجنوبية بعمق لا يقلّ عن 30 كيلومتراً، وبناء مساكن لإيواء ما لا يقلّ عن مليون من النازحين السوريين المتواجدين في مختلف مناطق تركيا.
“إسرائيل” ستبقى معنية بالدرجة الأولى بمواجهة حزب الله في لبنان وسورية وحركات المقاومة على امتداد فلسطين التاريخية. قد تجمّد عملياتها العسكرية في عمق الأراضي اللبنانية تفادياً لضربات حزب الله الانتقامية من جهة، ومن جهة أخرى لتأمين استخراج نفطها وغازها من منصات بحرية هي في متناول صواريخ حزب الله. لكن ليس من المستبعد ان تعاود اعتداءاتها متذرّعةً بدواعي حماية أمنها القومي.
لبنانياً، تبدو التطورات المحتملة غامضة. مع ذلك يمكن ترجيح تبلور خطين متناقضين للصراع: الأول يضمّ قوى اليمين المتحالفة مع دول الغرب الأطلسي ودول الخليج المناهضة لإيران. الثاني يضمّ حزب الله وحلفاءه وجماعات اليسار المتحالفة مع أطراف محورالممانعة والمقاومة. ولئن تبدو وسائل عمل كلّ من قوى الخطين المتناقضين سياسية وإعلامية في الغالب، لكن ليس من المستبعد أن تنزلق قوى اليمين المتطرف في بعض المناطق الحساسة الى العنف، وأن يتركّز الصراع في مناطق ذات غالبية مسيحية وبين أحزاب وتنظيمات مسيحية أيضاً. في المقابل، ليس من المستبعد ان يقوم حزب الله مع جماعات اليسار المنتشرة في مناطق وادي البقاع بتجاوز الحدود اللبنانية ـ السورية للانفتاح والتعاون سياسياً واقتصادياً مع بلاد الشام وصولاً، ربما، الى بلاد الرافدين وذلك لتأمين متطلبات المعيشة والصمود لمئات آلاف السكان في المناطق الواقعة تحت سيطرة قوى المقاومة وحلفائها.
هكذا يتضح أنّ خروج لبنان من وضعه المعقّد والمترع بتحديات ومخاطر سياسية شتى لن يكون قريباً بل لعله يتطلّب زمناً طويلاً. الى ذلك، فإنّ تحدي الخروج من هذا الوضع التقسيمي غير المقونن قد يدفع قياديين متعقّلين في كِلا الخطين، المقاوم ذي المنحى اليساري والمحافظ ذي المنحى اليميني، الى البحث عن قواسم مشتركة لتعجيل الخروج من الأزمة الكيانية المزمنة التي يرتع فيها لبنان منذ العام 1920. ولعلني لا أغالي إذا قلت إنّ خروج لبنان من أزمته الكيانية المستفحلة مشروط بقيام تحالف عريض يضمّ القوى الوطنية التقدمية بشتى تلاوينها وقوى المقاومة الشعبية الناشطة بلا هوادة ضدّ الكيان الصهيوني العدواني وحلفائه وذلك بغية تجاوز نظام المحاصصة الطوائفي، سلمياً وتدريجياً وديمقراطياً، على طريق بناء دولة المواطنة المدنية الديمقراطية.
*نائب ووزير سابق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى