الوطن

«الطائف»… وسط توتر العلاقة الأميركية – السعودية

‭}‬ روزانا رمال
بعيدا عن الدور الاساسي في تتويج مرحلة «دامية» من الاقتتال الداخلي بين ابناء البلد الواحد بإعلان انتهاء الحرب ووقف أطلاق النار, وحده اتفاق «الطائف» من أعاد للإدارة السياسية في لبنان القدرة على التحرك وإنتاج دورة حياة طبيعية بشكل أعاد التداول في السلطة وتفعيل المؤسسات ورسم أدوات الحكم ووضع إمكانية لتفعيلها مستقبلاً تماشياً مع محيط لبنان وموقعه الاستثنائي بعدما عرف الاتفاق بوثيقة الوفاق الوطني اللبناني التي وضعت بين الأطراف المتنازعين الذين اجتمعوا في مدينة الطائف السعودية في 30 ايلول 1989 ونجحوا بإقرار اتفاق لا يزال يدير البلاد والعملية السياسية فيه حتى هذه اللحظة وإقراره في 22 تشرين الأول من العام نفسه.
سياسياً, يلفت في تلك المرحلة التوافق الأميركي السعودي السوري على استيلاد حل في لبنان وعلى علاقات متشابكة بما يشبه «اتفاق المصالح» حكمت الاطراف خصوصا بين سورية والولايات المتحدة الأميركية في حين نجحت المملكة العربية السعودية وسورية من جهة اخرى بإرساء تفاهم «ضمني» فرض نفسه على الأميركيين لسنوات نتيجة ثوابت لبنانية داخلية واعتبارات عرفت «بالمرجعية» حكمت المشهد وقد عرف بمرحلة «السين – سين» للدلالة على المرحلة الوفاقية الاستثنائية وقد بقي كل ذلك ضمن التعاون الأميركي.
العلاقات السعودية – الأميركية تاريخية لكن الأهم انها «مصيرية» لحد بعيد وبأنها لم تكن يوماً وليدة لحظة او مصلحة آنية وظرفية، بل تتعدى ذلك لما يعتبر استراتيجية ادارة المنطقة واستقرارها بما يشكل مصلحة للطرفين. وقد بقيت الخلافات أياً كان حجمها غير قادرة على الإيقاع بهذه العلاقة المحكومة بترابط اقتصادي وسياسي كبير ووازن.
بالعودة لمصيرية العلاقة السعودية الأميركية على المنطقة ومجمل ملفاتها نعيش اليوم أول مؤشرات الخلاف الذي قد يؤثر على خيارات العلاقة ككل للمرة الأولى. والسبب أضخم من اي خلاف «تكتيكي» مر على دوام العلاقة وهو ليس سبباً قابلاً للتنازل بالنسبة لأي من الطرفين ويتمثل بالتعامل مع الحرب «الأوكرانية الروسية» أكان من باب الحساب السياسي والاستراتيجي او من باب الحساب الاقتصادي وهو الاهم بعدما رفضت المملكة العربية السعودية زيادة إنتاج النفط والانخراط كشريك غير مباشر في هذه الحرب؛ في حين يعتبر الغرب ان هذه الحرب «وجودية» بالنسبة اليه الامر الذي يحكي الكثير عن متغيرات في هذه العلاقة كلفت ولي العهد السعودي مخاطرة تتصف «بالشجاعة» وسط صعوبة أخذ خيارات احادية في اجواء دولية محتقنة ليس آخرها التلويح بحرب عالمية اثر تداعيات اقتصادية غير مسبوقة تعيشها اوروبا.
العلاقات الأميركية السعودية الاستراتيجية في ملفات المنطقة لم تكن قابلة لأي اهتزاز تحت اي ظرف الا ان الخضة الاولى على هذا الصعيد يكتبها التاريخ اليوم في ظل علاقات مميزة بين الرياض وموسكو مقابل العلاقة الملتبسة بين الرياض وواشنطن وبرودة واضحة بين أغلب الادارات الديمقراطية والديوان الملكي التي برزت بين الرئيس الأميركي جو بايدن وولي العهد محمد بن سلمان منذ ما قبل الحرب الاوكرانية على خلفية محاولة أميركية واضحة للابتزاز في ملف النفط مقابل قضية الصحافي «خاشقجي» وهي نقطة تسلح بها الغرب لمقاطعة بن سلمان حتى إعلان زيارة جو بايدن للرياض وكسر الجليد الذي لم يكن على القدر المأمول أميركياً بل أتى على شكل مفاجأة قادرة على تغيير شكل العلاقات الثنائية بين ابرز الدول الاقليمية في المنطقة فقراءة السعودية للحرب الاوكرانية الروسية المغايرة واسلوب التعاطي معها وقدرتها على الحشد كأكبر منتج للنفط في العالم ترسم خطوطاً جديدة للمشهد المقبل اذا طالت الحرب.
ولضخامة هذا التطور لم يعد ممكناً القفز فوق الملفات في الساحات المحيطة وإمكانية تأثر لبنان بهذا واحدة من ضمن هذه الحسابات الواقعة ضمن التشابك الأميركي السعودي، ويكاد يكون الأمر مختلفاً للمرة الاولى والحسابات غير تقليدية.
تدرك الولايات المتحدة أن رمزية الطائف تتعدّى الساحة اللبنانية والهدف من ولادتها كوثيقة أوقفت الحرب, ليتعدى الأمر ذلك وصولاً للدور والحضور والنفوذ. وتدرك واشنطن تماماً أن أية محاولة للعبث بهذا الطرح تشكل استفزازاً كبيراً للرياض وهي رسالة واضحة المعالم حاولت السفارة السويسرية بدعوة العشاء الشهيرة المؤجلة تصغير حجمها لتتحرك الدبلوماسية السعودية بشكل سريع تحذيراً وتذكيراً وإعلاناً بأن الرسالة وصلت… وكان لافتا حينها لفت السفير السعودي في لبنان وليد البخاري بأن «وثيقة الوفاق الوطني عقدٌ ملزمٌ لإرساء ركائز الكيان اللبناني التعدّدي، والبديل عنه لن يكون ميثاقاً آخر، بل تفكيك لعقد العيش المشترك، وزوال الوطن الموحّد، واستبداله بكيانات لا تشبه لبنان الرسالة».
البخاري الذي تحدّث عن «بديل» يدرك تماماً أن هناك من يستسيغ هذا الطرح, وعلى أن البلاد عايشت مرحلة صعبة ودقيقة عرفت بالتغيير والتغييريين صارت الفكرة مقرونة بالهدف وازداد التفكير بإمكانية التغيير الشامل وصولاً للطائف خصوصاً أن بعض الأفرقاء في لبنان وتحديداً جزء من المسيحيين «التيار الوطني الحر» لا يستسيغ الوثيقة التي يعتبر أنها سبب في نزع صلاحيات أدّت لعدم تمكن الرئيس ميشال عون من تنفيذ مشروعه السياسي بعد أن نجح خصومه بتعطيله.
وبين هذا وذاك تستعدّ البلاد لإحياء الذكرى 33 بمبادرة من السفارة السعودية فيما يبدو دعماً وتمسكاً من الحضور بهذه الوثيقة التاريخية لكن السؤال الأساسي اليوم ليس على قدسية الطروحات، بل على ضرورة استنفادها قبل طرح أخرى.. هل فعلاً طبق الطائف؟ وهل انتفت الحاجة اليه؟
الجواب الواضح ان الطائف لم يطبق بعد بجزءيه الأكثر أهمية.. مجلس الشيوخ والهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية وهي معضلة البلد.
ليس صحيحاً أن التطوير ممنوع، لكن غير المفهوم بعد عدم تطبيق الوثيقة الوطنية وعبث الأفرقاء في لبنان بأساسها وهي اليوم تبدو أكثر تماشياً مع متطلبات التغيير في لبنان، أي أن من أشرف عليها كان أكثر استشرافاً لحاجات المرحلة الحالية من الذين قصّروا في التطبيق.
عدم تطبيق الطائف يؤكد أن أي اتفاق او وثيقة أخرى ستكون عرضة لعدم التطبيق أيضاً فمن الذي يضمن تطبيق أي طرح جديد ومن الذي يضمن عدم الانتقائية؟… لتصبح الخلاصة ان المسألة لا تتعلق بالأنظمة والدساتير ولا بالطروحات بل ببلد تحكمه السياسة بامتياز ولعل تطبيق الطائف «أقصر» الطرق للحلول وتفادي الأزمات.
وبين كل ذلك ولد السؤال الأكبر والأخطر: هل ستكون الساحة اللبنانية التي تمثلها إدارة بايدن مساحة للتجاذب الأميركي السعودي وتصفية الحساب وحرب نفوذ على خلفية الموقف من الحرب الأوكرانية الروسية ولم تكن الدعوة السويسرية سوى هز للعصا لترجمة ذلك؟ هل يستطيع لبنان تحمل تداعيات الخلاف؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى