أولى

لماذا فتحت الآن معركة نصاب جلسة انتخاب رئيس الجمهورية؟

‭}‬ العميد د. أمين محمد حطيط*
رغم الاستقرار في تطبيق المادة 49 من الدستور التي تحدّد قواعد انتخاب رئيس الجمهورية والعمل بنصاب الثلثين منذ العام 1926 وفي كلّ الدورات، فإنّ حديثاً مستجداً ومفاجئاً طرح حول النصاب بذريعة انّ الدستور لم يتضمّن نصاً صريحاً يحدّد نصاب انعقاد جلسات الانتخاب وانّ هذا النصاب استنتج من النص على الأكثرية المطلوب للانتخاب. ومع الاستقرار هذا فإنّ من البديهي القول إنّ طرح معركة النصاب ليس في محله الآن لا بل يمكن القول بأنّ طرحه ليس مقصوداً بذاته بل لغايات أخرى فما هي؟
وقبل البحث عن تلك الأهداف قد يكون مفيداً التذكير بنص المادة 49 من الدستور والحيثيات التي أملتها انطلاقاً من اعتماد نصاب الثلثين نصاباً دائماً لجلسات انتخاب رئيس الجمهورية، وقد تضمّن المقطع الثالث من المادة 49 من الدستور النص على أن: “يُنتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى، ويُكتفى بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي”. ولم يحدّد نصاباً للجلسة، ومع انتفاء النصّ على النصاب كان ضرورياً استنباط الحكم الناظم للنصاب مما هو قائم في الدستور من نصوص أولاً ثم من المبادئ العامة ثم من روح الدستور وفلسفته ثانياً.
نبدأ مع النص، ونجد أنّ المشترع الذي فرض أكثرية الثلثين للاقتراع في الدورة الأولى، فرض ضمناً نصاب الثلثين للانعقاد ليصبح تشكّل بيئة وظروف إجراء الدورة الأولى ممكناً، ويكون نصاب الثلثين مدخلاً إلزامياً لافتتاح جلسات انتخاب رئيس الجمهورية، فإذا لم يتحقق ينتفي الانعقاد وهذا الأمر مسلّم به ومجمع عليه لدى كلّ الأطراف العاملين في المجال السياسي او الدستوري او الفقهي ولا يجادل به إلا جاهل او ذو خفة في فهم الدستور.
نأتي الى الدورة الثانية التي جعل النص الدستوري فيها الأكثرية المطلقة كافية لانتخاب الرئيس، ويكون السؤال هل تطبّق معايير الدورة الأولى ويتمّ التمسك بنصاب الثلثين ام يكون في الأمر تدبير آخر ربطاً بالأكثرية المطلقة؟
هنا لا بدّ من أن نلفت الى وجوب التمييز بين جلسة الانتخاب ودورة الاقتراع، فدورة الاقتراع لا تحصل إلا إذا كانت جلسة الانتخاب قد انعقدت أصولاً وفقاً للنصاب المطلوب وفي الجلسة الواحدة يمكن أن تجري أكثر من دورة اقتراع وينبغي أن يحافظ في الجلسة الواحدة على النصاب الذي بدأت به وإذا فقد النصاب تعطلت الجلسة وتعذر الانتخاب ووجب رفع الجلسة ثم الدعوة الى استئنافها وبنصاب ثابت كما بدأت وهو أكثرية الثلثين.
نقول هذا مع كلّ يقين وطمأنينة ودون ان يساور الذهن ظنّ بإمكانية العمل بأحكام ومنطق الجمعيات العمومية غير العادية في الشركات المساهمة المغفلة حيث جعل المشترع النصاب لجلساتها متحرّكاً متراجعاً من أكثرية الثلثين في الدعوة الأولى الى أكثرية الثلث في الدعوة الثالثة، فهذا أمر لا يمكن القياس عليه او الأخذ به ولا يمكن تطبيقه في مجال دستوري خطر وحساس يتعلق بانتخاب رئيس الجمهورية الذي يستقلّ بين جميع السلطات بكونه كما ينص المقطع الأول من المادة 49 من الدستور “رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن”. يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه وفقاً لأحكام الدستور” فإذا كان تعديل الدستور يتطلب دائماً نصاب ثلثي مجلس النواب مهما تعدّدت الجلسات والدورات فيها فكيف بك بجلسة انتخاب رئيس الجمهورية.
هذا في النص واستقرائه وتفسيره، أما في المبادئ وروح الدستور وفلسفته فإننا نجد شيئاً أخطر، حيث انّ النظام اللبناني ليس نظاماً ديمقراطياً يعمل فيه بمنطق أكثرية تحكم وأقلية تعارض كما هو الحال في الأنظمة الديمقراطية السليمة والصحيحة، بل هو نظام يجسّد في حقيقته فيدرالية الطوائف التي أكد الدستور على مشاركتها جميعاً في الحكم وحفظ لكلّ منها موقعه فيه وأسمى ذلك مقتضيات العيش المشترك الذي في حال المسّ به تنتفي مشروعية أيّ سلطة مهما كان شأنها، وعملاً بقواعد هذا النظام خصص كلّ من المسلمين والمسيحيين بنصف عدد أعضاء مجلس النواب بمعنى انّ كلاً منهم بحاجة الى صوت واحد ليشكل أكثرية مطلقة فإذا عمل بمنطق نصاب الأكثرية المطلقة للجلسات فإنّ كلاً من الفريقين إذا أمّن صوتاً إضافياً يستطيع أن يأتي برئيس جمهورية رغماً عن الطرف الآخر وطبعاً فإنّ في هذا تقويضاً لمقتضيات العيش المشترك وانتفاء لمشروعية رئيس الجمهورية المنتخب بهذه الطريقة.
لقد اكتفى المشترع في دورات الاقتراع التي تلي الدورة الأولى بالأكثرية المطلقة للانتخاب وهو مطمئن لمسألة النصاب الذي لا يتأمّن إلا بمشاركة عدد يكاد يلامس ثلث النواب المسلمين او المسيحيين على الأقلّ. ويكون النصاب هنا وبهذه الطريقة عاملاً مهماً لتحقيق التفاهم والتوافق عملاً بقواعد الديمقراطية التوافقية التي يتمسّك البعض بإطلاق تسميتها على فيدرالية الطوائف القائمة فعلياً في لبنان اليوم.
لقد أدرك اللبنانيون قبل اتفاق الطائف وبعده هذه الحقيقة واستقروا في التعامل مع انتخاب رئيس الجمهورية بموجبها متمسكين بنصاب الثلثين لكلّ جلسات الانتخاب ولم يسجل لغط حول الموضوع مطلقاً. نعم حصل لغط حول تفسير الأكثرية المطلقة وكان رأيان… رأي يقول بأنها النصف زائد واحداً ورأي يقول إنها العدد الصحيح الذي يلي النصف وأخذ المجلس النيابي بالرأي الثاني وقبل بانتخاب سليمان فرنجية في العام 1970 بأكثرية 50 صوتاً مقابل 49 للخصم، من أصل 99 نائباً كان يتكوّن منهم مجلس النواب.
وفي الخلاصة نرى أن لا مجال للحديث عن إمكانية انعقاد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية بأكثرية مطلقة لخطورة الأمر ومسّه بمقتضيات العيش المشترك، فنصاب الثلثين يضمن مشاركة مطلوبة ويبقي بيد الأطراف حق الفيتو بما يشكل ورقة ضغط من أجل التفاهم والتوافق بعيداً عن الاستئثار والتحدي.
انّ الذين أثاروا مسألة النصاب اليوم على علم او يجب ان يكونوا على علم بما ذكرنا أعلاه، ومع ذلك هم طرحوا الموضوع مع علمهم بعدم إمكانية تحققه، لكنهم كما يبدو يريدون أن يتخذوا منه مدخلاً لنزاع يتقاطع مع دعوة بعض المرجعيات الى تدويل القضية اللبنانية بعد إظهار عجز اللبنانيين عن حلّ مشاكلهم وقصور النظام السياسي اللبناني القائم عن توفير الاستقرار، الأمر الذي يتقاطع أيضاً مع ما صرّحت به مساعدة وزير الخارجية الأميركية بربارا ليف ونعت فيه لبنان وأكدت أنه يتجه الى انهيار ينهيه ويفرض إعادة تكوينه وطبعاً وفقاً للنظرة الأميركية. فهل يتحقق النعي الأميركي ويسقط لبنان نتيجة العمل بخطة بومبيو التي يُعمل فيها منذ آذار 2019 ويُجلد بها لبنان ويحاصر ويُدفع نحو الانهيار الكلي؟
لا نجادل بأنّ أميركا حققت الكثير في لبنان وفقاً لخطة بومبيو وما تتضمّن من حصار قائم مستمرّ، لكن تحقيق ما تبقّى من خطة سواء بملء الفراغ الرئاسي بشخص أميركي الهوى والتبعية والانصياع، أو إعادة تشكيل لبنان وفقاً للخطط الأميركية أيّ لبنان بلا مقاومة، انّ تحقيق ذلك أمر مستبعد لا بل يكاد يكون مستحيلاً في ظلّ وجود بيئة وطنية حاضنة بقوة للمقاومة وفي ظلّ مقاومة تملك القوة الميدانية التي تمكنها من الدفاع عن نفسها وبجدارة.
وعليه نرى انّ معركة النصاب هي جزء من حرب كما انّ معركة الحياد والمؤتمر الدولي حول لبنان هي أجزاء أخرى من هذه الحرب التي تستهدف لبنان وسيادته وموقعه وثرواته وطبعاً مقاومته، ولذلك كان صائباً جداً كعادته السيد حسن نصرالله عندما وضع معياراً لانتخاب رئيس الجمهورية الذي تطمئنّ المقاومة إليه مشترطاً فيه الشجاعة والثبات وان لا يكون سلعة تباع وتشترى ويحقق لأميركا أهدافها التي عجزت خلال السنوات الأربع الأخيرة عن تحقيقها.
*أستاذ جامعي – باحث استراتيجي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى