أولى

حقوق الإنسان في العالم: بين الطغاة والمقهورين!

‭}‬ د. عدنان منصور*
في الذكرى الرابعة والسبعين لإعلان شرعة حقوق الإنسان التي احتفل بها العالم قبل أسبوعين، تطرح مسألة حقوق الإنسان نفسها اليوم بقوة في عالم يشهد الحروب، والنزاعات، والصراعات، والفوضى، والفتن، وانغماس دول في الأحداث والصراعات الداخلية لبلدان عديدة، بغية تعزيز نفوذها السياسي،
والإقتصادي، والعسكري والأمني.
عندما نتكلم عن حقوق الإنسان، إنما نتكلم عن الحقوق الطبيعية التي ترتبط مباشرة بفكره، وحريته، وكرامته، وعقيدته، وحقه في الحياة الحرة الكريمة، والمشاركة في حركتها السياسية والاجتماعية، والثقافية.
حقوق الإنسان التي نطمح اليها لا تتجزأ، ولا تخضع للاجتهادات، والمعايير المزدوجة، والأهواء، ومزاج الدول، وهي ليست بحاجة الى تقييم أدائها من قبل دول التسلط والهيمنة، التي عبثت بحقوق الشعوب، وارتكبت الجرائم بحقها، وبحق الإنسانية على مدى قرون وعقود، ولا تزال تنتهكها حتى يومنا هذا.
معايير حقوق الإنسان، ومفاهيمها، ومتغيّراتها وتقييمها، ليست ملكاً او حكراً على الدول التي تتشدّق بالديمقراطية في بلادها، وتحرص عليها، في الوقت الذي تمارس التمييز، والتفرقة،
وتأجج الثورات، والنعرات، والفتن الطائفية، وتحرّض على أعمال العنف والاضطرابات في الدول، وتستغلّ وتنهب خيرات الشعوب، وتدعم فصائل الإرهاب في أكثر من مكان في العالم، ثم تعطينا دروساً في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، إذ من غير المقبول تسييس حقوق الإنسان من قبل الذين أطاحوا ويطيحون بالأنظمة الوطنية، ويدعمون الأنظمة الدكتاتورية التي تسير في فلكها، ويسخرونها لمصالحهم الذاتية.
هل وفرت دول الهيمنة الغربية التي تتباكى على حقوق الإنسان، الظروف المؤاتية للدول كي تنعم بالاستقرار والتنمية والتقدم، وهي التي تتدخل في كلّ صغيرة وكبيرة في شؤونها، وتنهب خيراتها، لتجعل شعوبها تغرق في الفقر والجهل والأمية، والمرض، والتطرف، فيما تمارس على الأرض سطوتها وكراهيتها، وسياساتها العنصرية، وتدعم التنظيمات الإرهابية المتطرفة، والجماعات الانفصالية المسلحة، تحرّضها على إشعال الفتن، والفوضى، وزعزعة الأمن في العديد من الدول.
«ضمير» الغرب تحرّك بكلّ قوة مع مهاسا أميني، مدافعاً، عنها، مجيّشاً العالم كله، مندّداً بالنظام، مديناً «انتهاك» حقوق الإنسان بحقّ امرأة إيرانية. لكن ما ارتكبه من جرائم في أفغانستان، وليبيا والعراق، ويوغوسلافيا، وسورية والصومال واليمن وغيرها، وما يفرضه من حصار وعقوبات ظالمة جائرة لا إنسانية ضدّ دول، متعمّداً تجويعها، وتركيعها، وإغراق شعوبها في الفقر والفوضى، والدمار، فهذا لا اعتبار، ولا أهمية له عند قوى التسلط والاستبداد !
من يظن انّ قوى الهيمنة والاستغلال، في هذا العالم على استعداد لمساعدة الشعوب للحصول على حقوقها الإنسانية فهو واهم. إذ لا تستوي حقوق الإنسان للشعوب المقهورة مع «الحقوق الإنسانية» والأهداف «السامية» لقوى الهيمنة والاستغلال التي تسيطر وتتحكّم بسياسات الدول، وتنهب ثرواتها، أكان ذلك في أميركا اللاتينية أم في أفريقيا أم في آسيا.
حقوق الإنسان لا توهَب، ولا تجيّر، ولا تُستجدى، بل تُنتزع انتزاعاً من قوى الاستبداد التي تمارس التمييز بين الشعوب، وتتحقق من خلال التصدي والرفض لسياسات هذه القوى وتعسّفها، والعمل على إرساء حقوق الإنسان الحقيقية، وقيمها، وبلورة مفاهيمها، وترسيخها في العقل، والفكر، والأداء.
في ظلّ الظروف البائسة التي تعاني منها شعوب عديدة في عالمنا اليوم، كالفقر، والأمية، والحرمان، والبطالة، والتمييز العنصري، والنزعات الدينية، والطائفية، والقومية، والعرقية المتطرفة التي تأخذ أشكالاً مختلفة، يدفع بالشباب الى التطرف والانحراف ظناً منهم، أنهم قادرون على تحقيق أهدافهم، من خلال لجوئهم الى أعمال العنف، والإرهاب.
دول الهيمنة الغربية تريد أن تخضع حقوق الإنسان لمفاهيمها وتطبيعها، بما يتوافق مع سياساتها، وغاياتها، ومصالحها. كما لا يناسبها مطلقاً، أن تتفجّر الطاقات الكامنة للشباب في الدول النامية، لاستثمارها في بناء مجتمعات متطوّرة، تتعزز فيها حقوقهم الإنسانية، وتضعهم في صلب حركة التطور العالمي، علماً، وفكراً ونهجاً وسلوكاً وأداء.
هل استيقظ مرة واحدة «ضمير» دول الاستعمار القديم، وهي ذاتها دول التسلّط والاستبداد الحديث، للدفاع عن حقوق الإنسان العربي، لا سيما حقوق الشعب الفلسطيني المسحوقة، التي هُدرت على يد طواغيت الغرب ولا تزال! وما الذي فعلته دول الهيمنة الغربية، ومنظماتها الدولية «الحريصة» على حقوق الإنسان حيال الشعب الفلسطيني، وما ترتكبه دولة الاحتلال «الإسرائيلي» بحقه من إرهاب وفظائع وجرائم بشعة ضد الإنسانية يندى لها الجبين، تتمثل بالحصار والتجويع، والاعتقال، والقتل، والتطهير العرقي، والتمييز العنصري، ومصادرة الأراضي؟!
ما هذا النفاق الغربي، والمفهوم الأعوج لحقوق الإنسان؟! أليست بعض دول التسلط مسؤولة عن دعم قوى الإرهاب في العالم، حيث اعترف مسؤولون أميركيون (باراك أوباما وهيلاري كلينتون) علناً بإنشائهم ودعمهم لتنظيمات إرهابية في منطقتنا المشرقية مثل داعش وغيرها؟!
إذا كان من حق الإنسان في هذا العالم العيش في مجتمع تتوفر فيه الحياة الكريمة، والحرية، والمحاكمة العادلة، وعدم التعذيب، واحترام المعتقد، وحقه في التعليم والعمل والزواج وبناء الأسرة السليمة، فهل ساعدت دول السيطرة والاستغلال «الحريصة» على حقوق الإنسان لتحقيق ذلك؟! وهل من صالحها أن تتحقق للدول النامية وشعوبها هذه الحقوق، التي تتعارض ولا شكّ مع امتيازاتها، ومنافعها، ومصالحها، وأهدافها المتوسطة والبعيدة المدى؟
هل في صالح قوى التسلط والنهب المنظم في العالم، التي تحمل على كتفها «حقوق الإنسان»، وتجد في الأنظمة المحلية الفاسدة عوناً، وشريكاً، وغطاء لها، أن تعمل على إيجاد بيئة خصبة توفر للشعوب المظلومة الحرية، والعلم، والديمقراطية الحقيقية، وتعزّز في داخلها الانتماء القومي، والاستقلال الوطني الفعلي، والعيش الكريم، والإنماء المتوازن، والحكم الرشيد، وإشراكها في صنع القرار السياسي!
إنّ الدول التي تستنزف ثروات الشعوب وتنهبها، وتحمي الأنظمة الفاسدة التي تدور في فلكها، وتوفر لها مقومات النفوذ، وجني الثروات الهائلة، آخر مَن يحق لها الحديث عن حقوق الإنسان، في عالم يستحوذ فيه 20% من سكانه على 80% من دخله، في ما يستحوذ 80% من السكان على 20%؟
هل باستطاعة الدول التي تعاني من الفقر، والأميّة، والبطالة، والتفاوت الطبقي، وفقدان الأمن، وعدم الاستقرار، ومن الضغوط الخارجية أن تخطو خطوات متقدمة لجهة تعزيز حقوق الإنسان، لا سيما في عالمنا العربي حيث عدد العاطلين عن العمل يبلغ 20 مليوناً، وعدد الأميين يتجاوز المئة مليون أمي، والذين يعيشون تحت خط الفقر لا يقلّ عددهم عن 115 مليون إنسان؟!
لا يظنن أحد، انّ الدول التي شنّت الحروب، وارتكبت المجازر، وهدرت حقوق الشعوب، واستبدّت بها، لديها النية الطيبة على مساعدتها من أجل تحقيق العيش الكريم والتنمية والاستقرار، والتقدّم!
لذلك ستبقى حقوق الإنسان على الساحة الدولية تخضع للأهواء، ولازدواجية المعايير، يفرضها المفترس متى شاء على الفريسة، بذلك تبقى حقوق الإنسان محصورة كلّ عام في مناسبة أممية، تروّج لها، وتتغنّى بها القوى التي يحفل تاريخها الأسود بالجرائم والإبادة، وانتهاك حقوق الشعوب!

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى