أولى

تحدّيات الاستراتيجية الأميركية في المنطقة تمنع نجاحها

‭}‬ العميد د. أمين محمد حطيط*
عندما قادت أميركا «الحرب» على المنطقة العربية وأطلقت عليها «الربيع العربي”، حشدت لها من القوى والقدرات ما يكفي بظنها لإسقاط الأنظمة السياسية وتفكيك الدول المستهدفة وإعادة تركيبها، وفقاً لما يناسب الرؤية الأميركية في بناء شرق أوسط جديد يشكل رافعة للنظام العالمي الأحادي القطبية الذي انطلقت أميركا لإرسائه مباشرة بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي في العام ١٩٩١، الحدث الاستراتيجي الأخطر في القرن العشرين والذي يلي في أهميته الحربين العالمتين الاولى والثانية.
ولم يكن امراً عابراً أو صدفة طارئة أن تبدأ نار «الربيع العربي» في تونس لتحملها الرياح الأطلسية شرقاً الى ليبيا ثم مصر وتتوزع بعدها جنوباً الى اليمن وشمالاً الى سورية القلعة المركزية لمحور المقاومة، والعراق الذي تمكنت مقاومته من مواجهة الاحتلال الأميركي وفرضت عليه الانسحاب الميداني بموجب اتفاق الإطار الاستراتيجي الذي لم يعط أميركا ما تبتغيه من جوائز احتلالها له.
لدى التدقيق في خريطة مناطق الاستهداف تلك يرى أنها تذكر بالمقولة الغربية ـ الصهيونية الشهيرة السابقة التي أطلقت من أجل توفير الأمن والاستقرار لـ «إسرائيل» وتضمّنت القول بأن هذا الكيان المغتصب لفلسطين «لا يمكنه أن يطمئن لمستقبل وجوده ان لم يتمّ تدمير أو تفكيك أو تحييد ٣ جيوش عربية هي المصري والسوري والعراقي والسيطرة على قرار دول ما أسمي يوماً جبهة «الرفض العربي» للاستسلام وفيها الى جانب من ذكر أعلاه كلّ من لبيبا والجزائر واليمن، قول أضيف له لاحقاً، لا بل عدل بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران وبعد ظهور المقاومة في لبنان، أضيف له لبنان عربياً وإيران إقليمياً وباتت استراتيجية الغرب بقيادة أميركية تستهدف ثماني دول وتتقدم اللائحة فيها كل من لبنان وسورية وإيران التي تشكل محور المقاومة الذي يضمّ اليه أيضا فصائل المقاومة الفلسطينية التي التزمت بالمقاومة خيارا استراتيجيا وحيدا لتحرير فلسطين.
وعندما أطلقت حرب التدمير والتفكيك العدوانية تلك كانت هذه الدول والكيانات كلها مدرجة في لائحة الاستهداف ووضعت جميعها بترتيب محدد وفقاً لجدول أولويات اختارتها أميركا من حيث التوقيت واعتمد لكل منها أسلوب عدوان يناسب جغرافيتها السياسية وموقعها وقدراتها الاستراتيجية وفي نهاية عقد من العدوان تبين لأميركا أن ما كانت تطمح اليه في «ربيعها العربي المزعوم» تحقق بعضه كلياً او جزئياً في مناطق وتعثر في مناطق أخرى، اما في المحصلة فإنّ الصورة العامة للنتائج جاءت أقرب الى الفشل منها الى النجاح. والأخطر في الأمر انّ الفشل في تحقيق أهداف الحرب الأميركية على المنطقة هذه بدولها الثماني ان الفشل هذا شجّع قوى دولية راكدة او تتهيّب المواجهة في الميدان، شجعها على الخروج من حالة الحذر ولركود الى السعي بقوة نحو ما تعتقد انه لها من حقوق ومصالح حتى ولو كان ذاك السعي يغضب أميركا، وفي طليعة تلك الدول روسيا والصين.
هذا المشهد المستجدّ فاجأ أميركا وأدخلها في حالة من الإرباك والاضطراب الاستراتيجي المترافق مع خشية مبررة وأكيدة، لا بل خوف ورعب من انهيار خططها لإقامة النظام العالمي الأحادي القطبية وتحوّلها من كيان أوحد قائد للعالم الى قوة عظمى تتنافس مع قوى عظمى أخرى وبحاجة الى الانخراط في أحلاف ومجموعات استراتيجية تسند قوتها او تتكئ عليها حتى لا تضطر الى النزول بجيشها مباشرة الى الميدان كما فعلت في الفترة ما بين ١٩٩١ و٢٠٠٣، حيث شنت الحروب المباشرة ضد أفغانستان والعراق، حروب لم تحقق لها ما أرادت بدقة، ما جعلها تصل الى ما وصلت اليه الآن.
وبنتيجة الأمر وجدت أميركا نفسها بين خيارين إما التسليم بضياع فرصتها في إقامة نظام عالمي أحادي القطبية والقبول بوقف او تسوية النزاعات الدولية، او المكابرة ورفض النتيجة ورفض الإقرار بالفشل والسعي الى تعويضه بأيّ صورة من الصور عبر الاستمرار بالمواجهة، ويبدو أنّ أميركا اختارت السلوك الثاني ووضعت له استراتيجية تقوم على أركان أربعة: تبدأ بمنع الحلول وإطالة أمد الصراع في كل الجبهات والميادين التي سبق وأضرمت النار فيها، ثم إدارة حرب استنزاف القوى التي تعيق أميركا وتمنع نجاحها في إقامة النظام الأحادي القطبية، مترافقة مع حرمان الخصوم والأعداء من ثرواتهم ومن العودة الى حياتهم الطبيعية، وأخيراً ممارسة أقصى أنواع الحصار والضغوط والحرب الاقتصادية، ويضاف اليها ما تعتمده أميركا دائماً من حرب نفسية وتشويه سمعة واتهامات باطلة بحق الخصوم.
انّ أميركا التي تدرك بأنها لا تملك القوة الكافية لتعويض فشلها وتحقيق مشروعها الكوني في الوقت الحاضر، وجدت انّ سبيلها الأفضل اليوم يقوم على ربط النزاع ومنع الخصم من الاستفادة من إنجازاته ودفعه للتضوّر جوعاً بسبب نجاحه في مقاومتها، وهي تعتمد الآن الحرب لا بل الإرهاب الاقتصادي المقترن مع الإرهاب الميداني والحرب النفسية والإرهاب السياسي، أساليب عدوان تنتجها مؤمّلة النجاح والعودة الى حلم يبدو انه قيد الاندثار، فهل تنجح أميركا في ذلك؟
إنّ أميركا في مسعاها القائم تواجه من التحديات ما يجعلنا نقول بانّ الزمن الذي كانت الريح فيه تملأ أشرعة السفينة الأميركية وتقودها حيث يريد الربان الأميركي زمن ولى ولا يبدو انّ عودته ممكنة خاصة وإننا نجد انّ القوى المناهضة لها تملك الآن الشجاعة وجرأة اتخاذ القرار في المواجهة والقدرة على التحمل والصبر الاستراتيجي مضافة اليها القدرة الميدانية، انّ هذه القوى قادرة على منع أميركا من تحقيق حلمها أو تعويض فشلها وهنا نرى…
1 ـ في سورية رغم شدة الحصار والحرب الاقتصادية الخانقة وسرقة أميركا للنفط والثروات السورية، فإنّ سورية تشهد اليوم تحولاً كبيراً في علاقاتها الإقليمية والدولية من تركيا الى الخليج وآخرين إضافة الي ما يشهد الميدان السوري من تصاعد في المقاومة الشعبية التي ستحول حرب الاستنزاف لتكون ضدّ أميركا بعكس ما خططت، ما يجعل الاستراتيجية الأميركية عقيمة في الميدان السوري كما يبدو.
2 ـ في إيران فشلت «حرب السافرات» (النساء من غير حجاب) وتمكنت الدولة من الصمود والاحتواء ثم الانطلاق للمعالجة الداخلية الناجحة والعودة الى استئناف مساعداتها لقوى محور المقاومة بما يحفظ قدراتهم العسكرية والاقتصادية مع جهوزية دفاعية عالية المستوى.
3 ـ في اليمن رغم تمديد الهدنة بين القوى الوطنية وقوى العدوان الخارجي بقيادة أميركية باطنة، فإنّ العودة الى الميدان مجدداً لتحقق فيه القوى الوطنية إنجازات إضافية تدفع نحو الحل الذي لا يناسب أميركا، ان هذه العودة ممكنة في أي وقت خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، عودة ستعيق الاستراتيجية الأميركية أيضاً.
4 ـ أما في فلسطين المحتلة فإن حكومة نتنياهو ـ بن غفير، وضعت نفسها والمشهد العام بين انفجارين اما انفجار الميدان الفلسطيني بوجهها مع ما يحمل من مخاطر وتحديات او انفجار الحكومة ذاتها إن لم تستجب لليمين المتطرف وفي كلتا الحالتين لن يكون الوضع مساعداً لإنجاح أميركا في استراتيجيتها.
5 ـ وفي العراق يبدو ان الأمور مع حكومة السوداني الجديدة لن تسير في الوجهة التي تريدها أميركا التي ستجد نفسها أمام مشهد يكرر ما شهده العام ٢٠١٠ و٢٠١١ حيث اعتمد الإطار الاستراتيجي الذي وضع حداً للوجود العسكري الميداني الأميركي في العراق.
6 ـ أما لبنان ولبيبا، فإنهما وللأسف يستمران رهينة بيد أميركا، الأول ميداناً لخطة بومبيو التدميرية، والثانية يمنع إعادة بنائها وتجميع أشلائها في دولة، ولكن أميركا رغم ما تفعله في لبنان فإنها تواجه العقبة الكأداء في وجهها والتي تشكلها المقاومة التي استعصت على الخطط الأميركية العدائية.
وفي الخلاصة نقول إنّ عدوانية أميركا وسياستها الإجرامية المتمثلة بالحرب الاقتصادية والإرهاب المتجدد لن تكونا قادرتين علي تعويض فشلها الذي بات نهائياً ومؤكداً وانّ ما يملكه الخصوم، من قوة في الميدان وقدرة على التكيّف وصبر استراتيجي مع شجاعة في المواجهة واحتمال ولادة ميدان أوكراني ثانٍ يغرق أميركا وحلفاءها، كلها وقائع تؤكد أن العصر الأميركي الى أفول.
*أستاذ جامعي ـ خبير استراتيجي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى