تفنيد مطالعة البيطار القانونية هرطقات وهفوات تدحضها سوابق ردّ المحقق العدلي ونقل الدعوى
علي عوباني ـ باحث قانوني
لو قُدّر لمنظري مبدأ فصل السلطات جان لوك، وشارل مونتسكيو، وجان جاك روسو، أن يُبعثوا إلى الحياة من جديد، لانبهر فلاسفة ما بين القرنين السابع عشر والثامن عشر، بما حوته المطالعة القانونية الأخيرة التي سرّبها المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار، والتي استعاد بموجبها زمام التحقيق بالقضية المذكورة، خصوصاً أنها أتت نموذجاً هجيناً معاكساً لنظريتهم التاريخية الشهيرة، بما تضمّنته من مغالطات وهرطقات قانونية، دمجت سلطات وصلاحيات مطلقة في شخصه، وجعلت منه حاكماً بأمره، قاضياً ومشرعاً ومنفذاً، يحاسب الجميع، ولا يُحاسب، ما شكل خطراً كبيراً ليس على القضية التي يتابعها فحسب بل على الهيكل والتنظيم القضائي، لمصادرته واختصاره السلطة القضائية بشخصه، وخطراً على جميع السلطات الأخرى، بظلّ طغيان سلطة قضائية على جميع السلطات الأخرى التشريعية والتنفيذية.
ينطلق القاضي البيطار في مطالعته من اجتهاد قضائي صادر عام 1995 خلاصته انّ المجلس العدلي محكمة خاصة مستقلة تماماً لا تعلوه أية محكمة او هيئة قضائية أخرى، ويعتبر هيئة موازية للهيئة العامة لمحكمة التمييز ويمنع ردّ أعضاء المجلس العدلي او تنحيتهم. ثم يضيف انّ المشرع تدخل بموجب القانون الأخير (328/2001) مجيزاً ردّ وتنحية المجلس العدلي دون ان يجيز هذا الأمر بالنسبة للمحقق العدلي. ومن هنا تكرّ سبحة المغالطات القانونية التي وقع فيها البيطار:
*أولاً ـ عدم جواز ردّ وتنحية المحقق العدلي:
إنّ عدم نص المادة 357 على تنحية المحقق العدلي رغم نصه على تنحية أعضاء المجلس العدلي، لا يمكن تفسيره بأيّ حال من الأحوال بأنه عدم إجازة تنحية المحقق العدلي. فكيف يأتلف القول بأنّ القانون أجاز ردّ وتنحية أعضاء المجلس العدلي وهم من قضاة محكمة التمييز ومعينون بمرسوم، ولم يجز ردّ وتنحية المحقق العدلي وهو (رئيس محكمة الجنايات سابقاً) وقد عيّن بموجب قرار وزاري وليس مرسوم حكومي. فإذا كانت المادة المذكورة أعلاه نصت صراحة على جواز ردّ قضاة المجلس العدلي، فبحجة أولى أن يكون ردّ المحقق العدلي جائزاً أيضاً.. ثم كيف يبرّر القاضي البيطار نفسه التناقض الذي وقع فيه ما بين التزامه بكلّ طلبات الردّ التي قدّمت سابقاً سواء من خلال التدابير والإجراءات التي اتخذها أو من خلال كفّ يده عن ملف التحقيقات وعدم متابعتها لمدة 13 شهراً، وبين عودته الحالية للسير بالتحقيق على قاعدة عدم جواز رده او تنحيته؟!
*ثانياً ـ عدم جواز الردّ والتنحية بالاستناد الى عدم تعيين محقق عدلي إضافي:
استنتاج القاضي البيطار في مطالعته عدم جواز ردّ أو تنحية المحقق العدلي، مستنداً في ذلك على مسألة عدم تعيين محقق عدلي إضافي أسوة لما فعل المشرع مع أعضاء المجلس العدلي، لجهة تعيين قاضي إضافي او أكثر ليحلّ مكان الاصيل في حال تنحيته أو ردّه. هذا القياس والاستدلال في غير محله كون آلية تعيين أعضاء المجلس العدلي أكثر تعقيداً وهي تحتاج جلسة لمجلس الوزراء، بينما آلية تعيين المحقق العدلي هي حصراً بيد وزير العدل بناء على اقتراح مجلس القضاء الأعلى، وبالتالي فإنّ قبول عرض التنحّي أو طلب ردّ المحقق العدلي يؤدّي حتماً إلى تعيين محقق عدلي آخر بموجب قرار من وزير العدل بناءً على موافقة مجلس القضاء الأعلى. وهذا ما حصل فعلاً بعد رفع يد المحقق العدلي السابق القاضي فادي صوان عن القضية نفسها، حيث جرى تعيين القاضي البيطار نفسه محققاً عدلياً جديداً. وهذا ما حصل أيضاً بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري حين تناوب على ملف إحالة القضية إلى المجلس العدلي ثلاثة محققين عدليين. أولهم القاضي ميشال أبو عرّاج الذي تنحّى في آذار 2005، فعُيّن مكانه القاضي إلياس عيد، الذي قرّرت محكمة التمييز الجزائية في أيلول 2007 نقل الملفّ منه، ليتسلم القاضي صقر صقر التحقيق من بعده.
*ثالثاً ـ تنحية المحقق العدلي بقرار قضائي يشكل إخلالاً بمبدأ فصل السلطات:
وهنا يوجد خلط واضح بين المفاهيم والمصطلحات القانونية، كون تنحية المحقق العدلي وكفّ يده شيء وإلغاء تعيينه الصادر بقرار وزاري شيء آخر، فالتنحية لا تعني إلغاء قرار التعيين الوزاري كما حاول القاضي البيطار تصوير الأمر، إنما هي تستند الى مبرّر قضائي مشروع (كالارتياب غير المشروع مثلاً) يفضي الى كف يده عن القضية ولا يلغي موقع أو مركز المحقق العدلي الذي جرى إنشاؤه إدارياً بموجب قرار وزاري، كون المركز موجود حكماً بحكم القانون، إنما يمكن استبدال شخص القاضي البيطار بشخص قاض آخر، بمتن قرار وزاري آخر كما حصل مع القاضي صوان سابقاً.
*رابعاً ـ عدم امكانية تقديم طلب نقل الدعوى بسبب عدم وجود مرجع مواز للمحقق العدلي المكلف اسمياً بالقضية:
وهنا للرد على هذه النقطة لا بدّ أن نحيل القاضي البيطار الى القرار الصادر عن الغرفة الجزائية السادسة لدى محكمة التمييز الجزائية تحت رقم 5/2021 القاضي بقبول طلب نقل الدعوى من تحت يد المحقق العدلي فادي صوان ورفع يده عنها، على أن يتولى النظر فيها محقق عدلي آخر، يعيّن وفقاً لأحكام الفقرة الأخيرة من المادة 360 أ.م.ج. ما يعني أنّ مسألة عدم وجود المرجع الآخر الموازي التي استند اليها البيطار للقول بعدم إمكانية تقديم طلبات نقل الدعوى يمكن تفنيدها بسهولة. وبالتالي دحض النتائح التي توصل اليها القاضي بيطار بالاستناد عليها لا سيما لجهة اعتباره دعاوى المخاصمة والردّ والنقل المقدمة في القضية الراهنة (انفجار مرفأ بيروت) غير سارية بحق المحقق العدلي، وانه يقتضي متابعة السير في التحقيقات من النقطة التي وصلت اليها.
*خامساً ـ الاختصاص استناداً لطبيعة الفعل الجرمي وللمفعول الساحب للجرائم المحالة الى المجلس العدلي وفقاً للمادة 356 ا.م.ج.
منح المحقق العدلي القاضي البيطار بمطالعته القانونية نفسه صلاحيات مطلقة تخوّله ملاحقة السياسيين والعسكريين والقضاة، دون الاستحصال على أيّ إذن قضائي، وفي هذا مغالاة وسابقة قانونية لا مثيل لها، فكيف لشخص أن ينصب نفسه قاضياً أعلى فوق كافة السلطات، وأن يهدم جميع الحصانات الممنوحة (القضائية، النيابية، المحامين…) أليس في ذلك تجاوزاً لحد السلطة ومخالفة دستورية فاضحة لمبدأ فصل السلطات.
لقد خصص الدستور اللبناني (المادة 66، المادة 71) آليات إتهام ومحاكمة خاصة للرؤساء والوزراء، بجرم الخيانة العظمى والاخلال الوظيفي أمام المجلس الاعلى. وهنا يسهل الردّ على القاضي البيطار، بالقول: «إذا كنت يا سعادة القاضي تتذرعّ بأنّ النص 356 أ.م.ج. أخذ بعين الاعتبار فقط طبيعة الفعل الجرمي (كلّ القوانين كذلك بطبيعة الحال)، ولم يعط ايّ اعتبار لهوية المرتكبين سواء كانوا من السياسيين، أو الإداريين، أو العسكريين، او القضائيين، فإنّ النصوص الدستورية جلية وواضحة هنا لجهة تحديدها آلية محاكمة (المجلس الأعلى) وفقاً لهوية المرتكبين… فلماذا لم تعتمدوها إذاً؟»
*سادساً ـ منح المحقق العدلي نفسه صلاحيات مماثلة وموازية لصلاحيات النائب العام التمييزي
تعمّد المحقق العدلي القاضي طارق البيطار منح نفسه صلاحيات في الملاحقة مماثلة وموازية لصلاحيات النائب العام التمييزي، مستنداً الى المادة 362 أ.م.ج. (يضع يده على الدعوى بصورة موضوعية.. ان أظهر التحقيق وجود مسهم في الجريمة فيستجوبه بصفة مدعى عليه)، متناسياً أنّ المادة التي تليها ( 363 أ.م.ج) منحت النائب العام التمييزي صلاحية انّ يطلع على ملف الدعوى وان يبدي ما يراه من مطالعة او طلب، وكذلك أنّ المادة (367 أ.م.ج) منحت المجلس العدلي، بناء على طلب النيابة العامة التمييزية او عفواً، أن يجري تحقيقاً إضافياً في الدعوى بكامل هيئته او بواسطة من ينتدبه من أعضائه لهذا الغرض. فكيف يصحّ بعد ذلك وبعد ما ورد في النصين السابقين أن يبرّر لنفسه انّ القانون منحه سلطة ملاحقة موازية لسلطة النائب العام التمييزي. وأنه بغنى عن ايّ إذن بالملاحقة أسوة بمدّعي عام التمييز.
أما تبرير توسيع صلاحياته كمحقق عدلي بالاستناد الى تفويض مسبق ورد في مرسوم الاحالة، فالردّ عليه من تناقضات مطالعة البيطار نفسها، فكيف يبرر قوله تارة في متن مطالعته أنّ قرار تعيين المحقق العدلي هو قرار مستقل ومنفصل عن مرسوم إحالة الجريمة الى المجلس العدلي، ليعود ويقيس على أعضاء المجلس العدلي في موضع آخر، لا سيما في ما توصل اليه من عدم جواز ردّ او تنحية المحقق العدلي وإلا لكان المشرع قد أوجب تعيين محقق عدلي إضافي في قرار التعيين أسوة لما فعل بالنسبة لأعضاء المجلس العدلي. ليعود في الأخير ويبرّر توسيع صلاحياته بتفويض مسبق من مرسوم الإحالة نفسه؟
لا شك أنّ المحقق العدلي في النهاية هو قاضي تحقيق وتنطبق عليه الأصول ذاتها التي تنطبق على ايّ قاضي تحقيق، وهذا ما ورد في نص المادة 363 ا.م.ج. والتي جاء فيها: «مع مراعاة أحكام المادة السابقة يطبق المحقق العدلي الأصول المتبعة أمام قاضي التحقيق ما خلا منها مدة التوقيف المنصوص عليها في المادة 108 من هذا القانون».
من هذا النص يتضح أنه لا يجوز للقاضي البيطار أن يستخلص من عدم نص المادة 357 ا.م.ج. على تنحية المحقق العدلي عدم إجازة تنحيته، لأنّ النص بشأن الأصول المتبعة لدى قاضي التحقيق في مسائل التنحية والردّ موجود في موضع آخر وهو المادة 52 ا.م.ج. (التي أحالت اليها المادة 363)، والتي جاء فيها: «لا يجوز لقاضي التحقيق الذي تُحال إليه الدعوى أن يرفض التحقيق فيها، إنما يحقّ له أن يعرض تنحّيه عن النظر فيها، كما يحقّ لكلّ من أطراف النزاع أن يطلب ردّه، على أن تطبّق على التنحّي والردّ المواد الواردة في هذا الشأن في قانون أصول المحاكمات المدنيّة».
ومما تقدّم، يتضح بشكل جلي أنّ سوابق نقل الدعوى ورد وتنحية المحقق العدلي جائزة قانوناً ومكرّسة في اجتهادات المحاكم، فضلاً عن أنّ صلاحياته محصورة ومرسومة بحدود القانون والتنظيم القضائي، ولا يصحّ بالتالي للقاضي البيطار أو سواه لاحقاً أن يتعامل مع النصوص الخاصة بالمجلس العدلي وكأنها كيان أو نظام قانوني مستقلّ عن قانون أصول المحاكمات الجزائية الذي وردت ضمنه، وأن يتجاهل كافة القوانين الأخرى واجتهادات المحاكم، ويخرج علينا كما حصل بمطالعة قانونية يعتريها الكثير من الثغرات والهفوات القانونية… ولذلك اقتضى التصويب.