أولى

حصاد المقاومة ورسائلها من قمّة جدة إلى ميدان المناورة في جنوب لبنان

‭}‬ العميد د. أمين محمد حطيط*
شكّل نصر المقاومة في أيار 2000 خروجاً على المسار العالمي الذي انطلق بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتجمُّع مقدرات القرار الدولي بيد أميركا التي انطلقت لإقامة النظام العالمي الأحادي القطبية حيث يُقدّم لها عرش العالم لتتربّع عليه وتقوده او تتحكم به عملاً بالظنّ الأميركي الذي صرّح عنه الرئيس بوش عندما قال «إنّ العناية الإلهية اختارت أميركا لتمسك بقرار العالم وتقيم الأمن والاستقرار فيه»، لكن المقاومة في لبنان مدعومة من سورية وإيران لم تؤمن بما تريد أميركا ومَن معها ولم تسلّم باحتلال الأرض بل عملت وجاهدت وضحت طيلة 18 عاماً توصلت في نهايتها الي تحرير معظم الجنوب، تحريراً نحتفل هذا الأسبوع بذكراه السنوية 23، باحتفال أحيته المقاومة بشكل يتناسب مع طبيعتها عبر مناورة رمت الى تحقيق أهداف كبرى وحملت رسائل الى العدو والصديق تؤكد على انّ مسار التحرير وتحشيد القوة إنما هو استراتيجية يستمرّ العمل بها حتى طرد المحتلّ من كامل المنطقة.
بيد أنّ هذه المقاومة التي نجحت في العام 2000 في تحرير الأرض في لبنان وضعت في دائرة الاستهداف المعادي، كما وضعت منطقة الشرق الأوسط كلها على رأس الاهتمامات الأميركية ووضعت لها «استراتيجية الفوضى» المدمّرة والتي أسمتها أميركا «الفوضى الخلاقة» التي تمكنها من تدمير ما هو قائم وإعادة تركيب المنطقة بشكل يناسب المشروع الصهيوني ـ الأميركي، المشروع الذي استلزم شنّ ثلاثة حروب أميركية لإقامته (أفغانستان 2001 ـ العراق 2003 ـ لبنان 2006)، لكن الحرب على لبنان فشلت في تحقيق أهدافها وشكل نجاح المقاومة فيها النقطة المضيئة الثانية بعد انتصار التحرير في العام 2000 وأجبر أميركا على التحوّل من استراتيجية القوة الصلبة الى استراتيجية القوة الناعمة التي بدأت بتطبيقها في لبنان في العام 2008 وقادت الى أحداث أيار والمواجهات فيه ثم انتقلت الى إيران في العام 2009 بعد الانتخابات الرئاسية وانفجرت في العام 2011 في سورية تحت مسمّى «الثورة» التي سرعان ما تأكدت بأنها حرب كونية تقودها أميركا ضدّ محور المقاومة وبشكل خاص ضدّ سورية وإيران وحزب الله.
وفي سياقات هذه الحرب الكونية لم تدَع أميركا أسلوباً من الأساليب العدوانية إلا واستعملتها ضدّ سورية، من عمل ونار في الميدان الي عزل وتطويق في السياسة الى حرب وحصار في الاقتصاد مع حرب نفسية وإعلامية شرسة شاركت فيها المئات من المواقع والمحطات ووكالات الإعلام المرئي والمكتوب والمسموع. حرب ابتغت إسقاط سورية ليتبعها بعد ذلك الاستفراد بكلّ من حزب الله وإيران ثم تنتهي بتصفية القضية الفلسطينية بالشكل الذي ظهر لاحقاً تحت مسمّى «صفقة القرن» واتفاقات ابراهام ومسارات التطبيع بين «إسرائيل» والعرب الذين اختلق لهم عدوٌّ وهميٌّ هو إيران وفرض عليهم الصراع معه صراعاً يحجب العداء الحقيقي والعدو الحقيقي أيّ «إسرائيل».
وقد كان القرار الأميركي الذي اعتمدته الجامعة العربية في بدء الحرب علي سورية والقاضي بتجميد مقعدها في الجامعة خلافاً لميثاق الجامعة، كان هذا القرار وجهاً من وجوه الحرب على سورية، وكان تمسك سورية بعروبتها ومبادئها وقيمها وموقعها الاستراتيجي في قلب محور المقاومة، وكان ذلك وجهاً من وجوه الدفاع في مواجهة الحرب ـ العدوان الكوني ضدّ سورية ومحور المقاومة. وبالتالي فإنّ استعادة سورية لمقعدها هذا لا تقرأ منفصلة عن نتائج الحرب بل هي الدليل القطعي على صورة تلك النتائج وعليها فإنّ رؤية الرئيس الأسد في مقعد سورية في الجامعة العربية، خلال اجتماع مجلس الجامعة على مستوى القمة، يشغله بكفاءة وجدارة عالية له من الدلالات والمعاني ما يتعدّى قطعاً الصيغة والشكل التنظيمي الإداري والبروتوكولي ليصل الى المدلول السياسي والعسكري والاستراتيجي المرتبط بالصراع في المنطقة والعدوان الذي تقوده أميركا ضدّها.
فعودة سورية واسترجاعها لمقعدها في الجامعة تمّت وسورية لم تتنازل ولم تفرط بشيء من قيمها ومبادئها وممارستها، عادت سورية وأول عودتها كانت درساً لقنه رئيسها الدكتور بشار الأسد لمن يعنيهم الأمر درساً في حقيقة وطبيعة العروبة التي هي انتماء وليست احتضاناً. فالانتماء ثابت لا يتغيّر ومن غيّر انتماءه لا انتماء له، بينما الحضن متحرك متغيّر يكون أو لا يكون وفقاً للمصلحة والظروف.
نعم، إنّ عودة سورية الثابتة على قيمها ومبادئها وموقعها الاستراتيجي، عودتها بهذا الشكل وقبول العرب بهذه الحقيقة تعني أموراً ثلاثة لا يمكن إغفالها:
ـ الأول منها يتصل بالحرب العدوان على سورية التي بدأت في العام 2011 والعودة تعني انّ الحرب الأساسية انتهت وانّ سورية انتصرت والعرب سلّموا بهذا الانتصار وهم مستعدون للتعامل مع نتائج هذه الحرب بأنها انتصار سورية وانتصار لمحور لمقاومة الذي وقف الى جانبها ودافع عن نفسه في ميدانها ضد شتى أنواع العدوان.
ـ أما المعنى الثاني فهو لا يقلّ أهمية أو خطورة عن الأول، وهو يعني أنّ «الهجوم الأميركي على المنطقة الذي بدأ بعد العام 2000 اثر تحرير الجنوب اللبناني، هذا الهجوم فشل في تحقيق أهدافه سواء بالقوة الصلبة او القوة الناعمة او القوة المركّبة او بحرب الجيل الثالث والرابع وصولاً الى حرب الجيل الخامس، ولأنّ لهذه العودة مثل هذه الدلالة فقد عارضت أميركا حصولها لأنها لم تصل في ذاتها الى درجة الإقرار بالفشل في الشرق الأوسط وهي لا تزال متمسكة باستراتيجية إطالة أمد الصراع وتمنّي النفس بتعويض الخسائر والفشل، ولهذا ترفض بشكل قاطع عودة سورية الى حياتها الطبيعية وتطبيع العلاقات الدولية معها.
ـ أما المعنى الثالث فإنه يتضمّن القول بانّ هناك نظاماً عربياً إقليمياً قيد التشكل. نظام ينتقل من حالة السيطرة الأميركية على مكونات المنطقة ومقدراتها والتعامل مع من لا ينصاع لها بوصفه على حدّ التوصيف الأميركي «مارقاً» او «إرهابياً»، واعتبار العلاقة معه غير مشروعة والانتقال الى نظام إقليمي يقيم علاقة متوازية مع الغرب والشرق، الشرق المتمثل بالصين وروسيا والإقرار بحقّ الآخرين بخياراتهم الاستراتيجية في إقامة منطقة لأهلها تعمل في ظلّ نظرية «لا شرقية ولا غربية» ولا تبعية، وقد يرى البعض أنه من السابق لأوانه الكلام بهذا الشأن ولكن نقول أول الخط نقطة وأول المسيرة خطوة.
وربطاً بهذه المعاني يمكن أن تُفهم مناورة حزب الله في عرمتى في جنوب لبنان بعد 48 ساعة من انفضاض القمة التي كان الرئيس الأسد نجمها، نجومية لم يؤثر على مفاعيلها رمي قنبلة صوتية منعدمة الأثر تمثلت بحضور الرئيس الأوكراني زيلنسكي لبضع دقائق فيها، فهذه المناورة أكدت على معانٍ وأهداف تتكامل مع ما حملته قمة جدة وأرسته من معانٍ ودلالات، أهمّها:
ـ ان المقاومة ومحورها الذي انتصر في سورية وهزم العدوان الكوني، هو على جهوزية عالية في مواجهة التهديدات الخارجية لا سيما الإسرائيلية منها. وان أي تفكير بالتشويش عليه أو محاولة إسرائيلية لمراجعة قواعد الاشتباك ومعادلات الردع لن تلقى إلا الزجر والشدّة التي تقود المعتدي الى الندم والألم.
ـ إنّ المقاومة التي اتخذت إبان معركة «ثأر الأحرار» موقف الترقب والانتظار واحتمال التدخل إذا اقتضت المسؤولية ذلك، تملك القدرات الهجومية التي تجبر «إسرائيل» على التعامل الفعلي مع نظرية وحدة الساحات.
ـ إنّ القول بأنّ المتغيّرات الإقليمية والدولية ستقود الى المسّ بالمقاومة ودورها ليست أكثر من تخرّصات وأمنيات لا تعني إلا مَن يطلقها.
وفي المحصلة نقول إنّ منطقتنا واعتباراً من أيار 2023 دخلت في مرحلة جديدة سماتها انتصار محور المقاومة وفشل العدوان عليه والاتجاه الى إقامة نظام إقليمي فاعل مبني على مبادئ القوة الدفاعية الفاعلة وإقامة العلاقات المتوازية بين الشرق والغرب، والأهمّ فيه هو سقوط مشاريع التقسيم والتفتيت والتناحر والصراع الاثني على أساس عرقي أو ديني أو مذهبي، إنه ثمرة الصمود المقاوم الذي طوى صفحة الحرب الكونية على سورية ويطوي تباعاً الهجوم الأميركي الذي بدأ منذ 3 عقود للسيطرة الكاملة على الشرق الأوسط.
*أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى