مقالات وآراء

«قنابل موقوتة» في بيوتنا

‭}‬ سارة السهيل
حكايات الجدّات المليئة بالخيال والمتعة والمغامرة لعبت دوراً محورياً في تنشئة الطفل العربي والشرقي بشكل واسع قديماً، وغرست في نفسه كلّ القيم الأخلاقية التي يتوجب غرسها في هذه السن الصغيرة. والجميل في الأمر أنّ هذه الحكايات قدّمتها الجدّات بعناصر جذب ومتعة مسلّية للأطفال لأنها كانت تُحكى شبه مغنّاة .
ومع تطوّر العصور اختفت حكايات الجدّات وحلّت مكانها برامج و«عرائس» متحركة وسينما الأطفال التي كانت تُقدّم في بداياتها كفن راقٍ وجذّاب للأطفال لتحلّ الثقافة البصرية المشاهدة محلّ نظيرتها الشفهية للجدّات .
وبرزت برامج راقية عملت على تعليم الأطفال منظومة القيم الأخلاقية والدينية ورفعت مستوى التلقي للفنون والثقافة للطفل العربي في بدايات الإذاعة العربية و«بابا شارو « و«أبلة فضيلة» في مصر، ثم البرامج التليفزيونية الناجحة مثل «افتح يا سمسم» في الخليج و«المناهل» في الأردن وبرنامج «كيف وليش» وغيرها من تجارب ناجحة .
ومن يفتش في التاريخ المعاصر ويرجع الزمن للوراء في ثلاثينيات القرن الماضي وتحديداً عام 1936 عندما شهدت مصر ولادة أول فيلم للرسوم المتحركة وهو «مفيش فايدة» للإخوة فرانكلين، واللذين أنتجا 30 فيلماً للرسوم المتحركة فى مصر واخترعا شخصية «مشمش أفندي»، وهاجرا الى فرنسا وحرفا اسم «مشمش» وجعلاه «مميش» فى الأفلام الفرنسية .
وكذلك كانت تجربة تلفزيون بغداد في تقديم تجارب رائدة في فنون الطفل عبر العديد من البرامج الشيّقة التي تربّت عليها أجيال مختلفة بدءاً من أول برنامج «عمو زكي» في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ثم تطورها مع العديد من البرامج في العقود اللاحقة مثل برنامج «افتح يا سمسم» وبرنامج «حكايات الجمعة» الذي كان يقدّم قصصا شيّقة تربوية وجمالية للأطفال ومسلسلات الكرتون مثل «سينان» و«بسمة وعبده» و«سينما الأطفال» بجانب شخصية «قراقوز» تلك اللعبة التي تُمسَك بالأصابع ويقدّم من خلالها نقد اجتماعي للسلوك الإنساني، وغير ذلك كثير…
فلماذا لم يبن العرب على شخصية (مشمش) او «قراقوز» أو يطوّرهما منذ ذلك التاريخ؟ ولماذا انتظرنا كلّ هذه السنوات حتى تغزونا أميركا واوربا والمترجمة عن الكورية بافلامهم التي بعضها رائع وبعضها دمّرت اخلاق اطفالنا؟ خاصة أنّ معظم شركات إنتاج الكرتون لا تعتني بالقيم والمفاهيم الشرقية سواء الإسلامية أو المسيحية لأنّ أكثر من 90% من أصحابها من أصحاب الأجندات العدائية، ولا تهتمّ إلا بالربح المادي.
محاولة المجلس العربي للطفولة
انتبه المجلس العربي للطفولة والتنمية لخطورة الأفلام الكرتونية والمدبلجة الغربية على قيم الطفولة العربية، فنظم في التسعينات مسابقة لابتكار وتصميم شخصية كرتونية للطفل العربي تستمدّ مقوّماتها من البيئة العربية والشرق أوسطية ويجد فيها الطفل ما يشبع متعته النفسية وتلبّي حاجاته الاجتماعية يكتسب من أبطالها المثل العليا والمعاني الإنسانية وتكون بديلاً عن الشخصيات الكرتونية الأجنبية بما تحمله من قيم مغايرة للمجتمع العربي الإسلامي والعربي المسيحي، ولكن للأسف فإنّ التجربة لم يكتب لها الاستمرار والنجاح. ورغم كثرة الفنانيين والمخرجين المتخصّصين في أفلام التحريك والكرتون الا أنهم يقفون عاجزين عن تقديم أعمال فنية تشبع احتياجات الطفل العربي، والسبب ـ كما يقول المتخصصون في الصناعة ـ هو قلة الإنتاج العربي نتيجة ارتفاع تكاليف الإنتاج وغياب التمويل اللازم لتطوير صناعته وفشلنا في ابتكار وسائل تسويقه.
«اليونسكو» تحذر
أما الدراسات التي أجرتها منظمة اليونسكو العالمية على تأثير التلفزيون على عقلية الطفل فقد أكدت نتائجها على أنّ «الكرتون» إذا زادت مدة مشاهدته عن الحدّ المعقول قد يمنع الأطفال من ممارسة الأنشطة الحركية والثقافية الأخرى وتحرمهم من التفاعل والتواصل الاجتماعي وتزداد احتمالات إصابتهم بالبدانة وبالانطواء النفسي، إلا أنني أضيف أنها في المقابل تقوّي اللغة وتضيف بعداً إنسانياً للطفل كما تزيد من معلوماته وايضاً حسّه الفني والموسيقي وأيضاً تعرّفه على الفنيات والجماليات بالرسوم والألوان والديكور، فكلّ شيء حسب استخدامه. وبالدفة الثانية أثبتت الدراسات أنّ الطفل يتأثر بالشخصيات التي تعرض أمامه الى حدّ الإدمان والتعلق الشديد بها ولهذا يجب اختيار الشخصيات بحرص كقدوة ونموذج يحتذى بها؛ لأنّ قضاء الأطفال أطول فترة أمام التلفزة يجعلهم يتقمّصون هذه الشخصيات ومن ثم احتمال التمرّد على أوامر الوالدين التي قد تحرمهم من متابعته، والانفصال عن الواقع والقيم والتقاليد… نتيجة العيش في عالم مبهر بعيد عن الواقع وتسارع التقنية الحديثه والإعلام الحديث. كما أثبتت معظم الدراسات النفسية والاجتماعية الحديثة أنّ الإدمان على مشاهدة الرسوم المتحركة يؤدّي ـ حتما ـ إلى انحراف الطفل فكرياً وسلوكياً. وقد يتجاوز ذلك إلى تمييع أخلاقه وصرفه عن عادات مجتمعه وتقاليده الاجتماعية.
ومن هنا أقول إنه يجب انتقاء ما يشاهده طفلك على شاشة التلفزيون وتحديد مدة الجلوس أمام هذه الشاشة.
تخريب أخلاقي
يذكر د. عبد العزيز الأحمد وهو أحد المتخصصين في هذا المجال، أنه بعد دراسة 500 فيلم طويل وجد أن 73% من الأفلام يطغى عليها في الغالب الرعب والجريمة وعلاقات غير سوية، وانها تقدم في قالب بريء وجذاب ويكمن بداخله الشر كله .
فهذه الأفلام الكرتونية تعمل على زعزعة عقيدة الطفل بالله، وكدارسة في علم النفس أؤكد على ضرورة شعور الطفل بالأمان والاطمئنان النفسي من خلال ارتباطه الوجداني والروحاني بفكرة الإيمان وانّ الله هو الحامي ولهذا ليس فقط من مفهوم ديني بل ونفسي أيضاً يحتاج الطفل إلى الإيمان، للأسف في بعض افلام الكرتون مثل (البوكيمون) تنشر الأفكار الباطلة مثل النشوء والتطور التي تزعم بأنّ الانسان خلق في بدايته قرداً ثم تطور إلى صورته الإنسانية الراهنة، حيث يتحد «البوكيمون» مع الحيوانات لينتج كائناً جديداً، وهو فكر يخالف تكريم البارئ جلّ شأنه لبني آدم .
كما نجد مثلاً في فيلم (سندريلا) والتي تصوّر فيها امرأة ساحرة طيبة تساعد سندريلا على حضور حفلة الملك، شخصية السندريلا المبهرة التى قدّمت بها وما قدّم من خلالها قصة حب راقية بين السندريلا والأمير بشكل رومانسي جذاب فى قالب محترم لعلاقة عاطفية صادقة تتفق مع تقاليدنا الشرقية وعاداتنا أيضاً تزرع الخير في القلوب وتؤكد أنّ الله ينصف المظلوم ولو بعد حين، فسندريلا ابنة رجل من النبلاء كريمة الأصل جميلة الشكل والقلب تعذبت كثيراً في حياتها لكنها لم تفقد طيبتها وبراءتها مع الناس والحيوانات ولهذا أكرمها الله في النهاية، لكن بعض أفلام الكرتون الأخرى الحديثة تروّج للأطفال قصص حب لا تتناسب مع عاداتنا وقيمنا وأخلاقياتنا عكس قصة السندريلا.
تحفل برامج وأفلام الكرتون الغربية بالعديد من عناصر نشر الرعب والخوف في نفوس الصغار من خلال مادة درامية مليئة بالإجرام والعنف لكنها تقدّم في قالب مشوّق جذاب يستمتع بها الطفل العربي وتغرس في تنشئته وتكوينه النفسي في ما بعد. كلّ هذا لا يعني رفض أفلام الكرتون والأعمال والبرامج التي تقدّم من خلالها ولكن يجب علينا ان نركز في ما يقدّم، احياناً يقدّم السمّ فى العسل علينا ان ندقق ونعرف كلّ ما يقدّم لأطفالنا وهل هو متفق مع عاداتنا وتقاليدنا الشرق أوسطية ويتفق مع ما جاء فى كافة الشرائع السماوية والكتب المتفق عليها كمراجع أخلاقية ومناهج حياة سوية يتفق مع مجتمعاتنا الشرق اوسطية، بعضها قنابل موقوتة في بيوتنا.
وعلينا ان نعترف انّ الكرتون عمل فني جميل يبهر ويجذب الطفل وممكن من خلاله أن نوصل رسائلنا وما نريد ان نعلمه لأجيال المستقبل من أطفالنا وأن ننشئه التنشئة السليمة بثقافة مستنيرة لنخلق أجيالاً تستطيع ان تتحمّل وتتسلّم الراية من بعدنا لتواصل البناء.
ورفضي لبعض أفلام الكرتون التي تعمل على تحريف القدوة، عبر جعل الأبطال الأسطوريين رمز القدوة، بدلاً من أبطال واقعيين فبُعد الشخصية الكرتونية عن الواقع يجعل الطفل يستبعد أن يصل لهذه الشخصية فيفقد فكرة القدوة، فالأطفال صاروا يقلدون الرجل الخارق Super man، والرجل الوطواط Batman والرجل العنكبوت Spider man، وغيرها من الشخصيات الوهمية، فتضيع القدوة في عالم القوة الخيالية. انا مع الخيال وهو مطلوب، فنحن ننادي ان نطلق للأطفال آفاق أوسع للتخيُّل، وقد قدّمت الخيال فى عدد من أعمالي الأدبية مثل «المكعب الأسود» والذى سيُطبع قريباً، ومن خلاله أوْجدت شخصية خيالية تسرد الأحداث من خلالها كوسيلة جذب لتوصيل رسالتي وهدفي من العمل الأدبي، فأنا أطالب بالخيال ولكن يجب ان نعرف العمر الذى يقدّم له العمل الذى يعتمد على الخيال فكلّ عمل لا بدّ ان يكون لفئة عمرية مختلفة فمثلاً لو قدّمت شخصية «باتمان» لطفل عمره 5 سنوات فهي غير مناسبة له وخطر عليه لأنه ممكن ان يقوم بتقليدها مما يعرّض حياته للخطر ولكن لو قدّمت العمل الفني «باتمان» للفئة العمرية أكبر من 13 عام ستكون مناسبة له ولن يقوم بتقليدها لإدراكه ومعرفته بأنها شخصية خيالية غير قابلة للتقليد .
أغلب القوانين بالدول الغربية تطالب ان يكتب على العمل الأدبي المرحلة العمرية التى يوجه لها العمل وأنا أتفق مع ذلك ولكنني أرى أنه من باب أوْلى أن يكتب على العمل الفني من الأفلام والبرامج والأعمال الكرتونية المرحلة العمرية التى يخاطبها العمل للخطورة الكبيرة لأنه يوجد أعمال يمكن ان تكون مناسبة لأعمار ولا تناسب أعماراً أخرى وهذا برأيي مهمّ بدرجة كبيرة .
فأبطال بعض الأفلام يوقفون الزمن، ويذهبون إلى المستقبل، جرياً وراء أفكار غريبة فيُحاول الطِّفل تقليدهم، ويفشل فيضغط على أعصابه ليُصاب بالفشل، أو يُصِرّ على تقليدِهم فيلجأ للعنف فيعرّض حياته للخطر؛ لأنه قد يطير أو يقفز مِن النافذة دون وعْيٍ بما يفعله .
وخلصت نتائج الدراسات الاجتماعية التي أجريت على الأطفال الذين يشاهدون أفلام الكرتون، الى «انّ هذه الأفلام والبرامج تُنَمِّي لدى الطفل نزعات عنفٍ وعدوانية؛ والانفصال عن الواقع؛ نتيجة العيش في عالم مبهر جذَّاب غير واقعي، وانّ الأطفال دون سن الـ 8 سنوات لا يفرّقون بين الخيال والواقع فيشاهدون الكرتون ليقتدوا به، ويقلدوه وهو ما ذكرته انه توجد أعمال تناسب الأعمار الصغيرة التى اقل من ثمانى سنوات مثل «الرجل العنكبوت والرجل الخارق».
وتتسبّب كثرة مشاهدة العنف في هذه الأفلام بإصابة الإطفال باضطراباتٍ كثيرةً في النوم؛ وتعرّضهم لكوابيس، قلق فيفقدون النشاط إلى جانب تعرّضهم لمخاطر العزلة وتقليل الاحتكاك بالأسرة، وتكوين علاقات خارجيَّة يتعلم من خلالها الكذب، ويتعوَّد على الكسل لجلوسه لفترات طويلة أمام التلفاز بدون حركة، مما يصيبه بالسمنة أو النحافة .
سلاح الكارتون.. درس أميركي!
في المقابل نجد أميركا رغم أنها صانعة لأغلب أفلام الكرتون قد حدّدت عدد الساعات المسموح بها لمشاهدة الكرتون للأطفال، وهي ساعتان أسبوعياً فقط.
لا يغفل عاقل حقيقة انّ فن الكرتون حقيقة فنية لا يمكن تجاوزها او منع الأطفال من مشاهدتها خاصة أنّ لها أيضاً فوائد مهمة في التنشئة إذا ما نجحنا في استثمارها، ومنها: انها توسّع أفق التفكير لدى الأطفال وتكرّس بعض القيم الإيجابية في نفوس الأطفال مثل التعاون، والصداقة، والأمانة والأخوة وتوضيح بعض المفاهيم التي يركز عليها الطفل في هذه المرحلة، مثل: الخير والشر، والصدق والكذب، وأيضاً تنمية المعرفة والقدرة على الابتكار والتفكير، كما تساعد بعض الرسوم المتحركة الحديثة الطفل على اكتساب الصفات الإنسانية الجيدة وتنمّي شخصيته، ومن سلبيات الكثير من أفلام الكرتون أن يكتسب الطفل بعض الصفات ولكنها تتحوّل أيضاً لسلاح قاتل إذا ما شاهد الطفل في أفلامها الجريمة والعنف والاقتتال.
الأمل
لا أمل لدينا في الحفاظ على الطفولة العربية الشرقية من المحو الحضاري الذي تبثه أفلام الكرتون الغربية سوى بذل الجهود الحكومية والاجتماعية علي مستوي المجتمع والافراد والمؤسسات في تبني مشروعات فنية عربية شرقية لإنتاج أفلام كرتون تستطيع المنافسة عالمياً وهو ما يمكن تحقيقه بإعطاء حوافز لمنتجي أفلام الكبار لتشجيعهم على دخول هذه الصناعة، مثل الإعفاء من الضرائب وتحفيز دور العرض لتقديم كرتون عربي للأطفال، يقبل رياض الأطفال طلاب المدارس الصغار عبر تنظيم رحلات أسبوعية أو شهرية لهم وتشجيع الفضائيات العربية على إنتاج هذا اللون الفني وحفز الرعاة والمعلنين بخفض نسبة الإعلان في برامج الأطفال وغيرها من الوسائل التي تسهم في إنتاج كرتون عربي يحمل قيم تراثنا العربي والإسلامي وتشجيع الكتاب والمبدعين على كتابة أعمال أدبية فيها شخصيات تكون قدوة نقدّم من خلالها رسالة نريد ان نعلمها لأطفالنا بعيداً عن الأعمال المدبلجة والمترجمة البعيدة عن قيمنا وأخلاقياتنا وعاداتنا وتقاليدنا وان نحدّد المرحلة العمرية لكلّ عمل فني نقدّمه مثلما نحدّد على كتاب الطفل تماماً.
وكما ينصح المتخصصون فإنّ الأسرة مطالبة بتحديد ساعات مشاهدة الطفل للتلفاز، على الأكثر ساعتين في اليوم وبشكل متقطع، على ان تتابع الأمّ ما يشاهده الطفل من أفلام، والتحاور معه لتصحّح له الأفكار المغلوطة وتبرز له الفرق بين الخيال والواقع وتجيب عن كلّ ما يدور فى عقل الطفل من أسئلة تحتاج لإجابات شافية بصورة مبسطة وسليمة .
أما المؤسسات التربوية والاجتماعية المختلفة، فهي مطالبة بتحفيز الطفل لاكتساب الهوايات والمهارات الحياتية مع تشجيع الطفل على اللعب مع أقرانه داخل رياض الأطفال ومع أبناء الجيران وفي النوادي وفي المدارس لتكوين علاقات إنسانية أكثر تفاعلاً، لا سيما فى القراءة والمطالعة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى