مقالات وآراء

الحسابات الأميركية نحو تموضع جديد على رقعة شطرنج غرب آسيا

‭}‬ د. ميادة ابراهيم رزوق*
بدأت أواصر العلاقة الأميركية ـ السعودية في 14 شباط عام 1945 باتفاق كوينسي الشهير بين مؤسّس المملكة العربية السعودية الملك عبد العزيز آل سعود، والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت على متن الطراد «يو أس أس كوينسي»(CA-71) ، الذي تضمّن في أبرز بنوده توفير الولايات المتحدة الأميركية الحماية اللامشروطة لعائلة آل سعود الحاكمة، مقابل ضمان السعودية إمدادات الطاقة التي تستخدمها الولايات المتحدة الأميركية وذلك لمدة 60 عاماً، ليتمّ تجديدها عام 2005 من قبل الرئيس جورج دبليو بوش.
بعد لغة الاستعلاء والتقزيم من قبل الرئيس الأميركيّ الأسبق دونالد ترامب، وتحصيل مليارات الدولارات مقابل صفقات أسلحة أميركية، ورعاية المملكة (اتفاقيات إبراهام) بين كيان الاحتلال الصهيوني و”البحرين والإمارات والمغرب والسودان”، بدأ الجفاء الحقيقي مع المملكة مع وصول جوزيف بايدن إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة عام 2021، وتنفيذ إدارته قطيعة شبه دبلوماسية مع المملكة العربية السعودية التي أطلق عليها صفة ”المنبوذة“، وعمل على منع بيعها الأسلحة وعدم التعاون معها في مختلف المجالات على خلفية مقتل الصحافي المعارض جمال خاشقجي في سفارة المملكة في تركيا، واتهام جهات نافذة سعودية بذلك، لتكتمل أركان نقض اتفاق كوينسي بقرار إدارة الرئيس بايدن سحب 3 بطاريات باتريوت من السعودية، والتنصّل من حمايتها بعد استهداف الجيش اليمني واللجان الشعبية منشأة أرامكو في آذار/ مارس 2021.
بدأت الحرب الأوكرانية “الروسية ـ الأطلسية” في 24 شباط 2022، وكانت بمثابة فالق زلزالي جيوسياسي أدّى إلى تغيير تموضع العديد من الدول في العالم على طرفي هذا الفالق وفق مصالحها الوطنية، وبما يسهم ببروز معادلات جديدة لتكريس توازنات دولية مختلفة نحو عالم جديد بعيد عن القطبية الواحدة، وهيمنة النظام الامبريالي النيوليبرالي على العلاقات الدولية.
على ضوء ذلك ووفق نتائج الحرب الأوكرانية وتداعياتها على الاقتصاد العالمي، وارهاصاتها السياسية والعسكرية، تعمّقت العلاقات البينية الثنائية بمختلف المجالات بين روسيا والصين وإيران نحو توقيع اتفاقيات استراتيجية أمنية واقتصادية وتجارية وسياسية، وسطع نجم مجموعة بريكس ومنظمة شنغهاي كتكتلات اقتصادية سياسية موازية لمجموعة السبع، ومجموعة العشرين، لكسب القوة الاقتصادية المهيمنة على قطاعات رائدة وحيوية، وإنشاء بنك التنمية الجديد كبديل للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، لتشكل هذه التكتلات منصة مهمة لتبلور عالم متعدد الأقطاب.
بناء على هذه التطورات، وتراجع نفوذ الهيمنة الأميركية في غير مكان في العالم، غيّرت المملكة العربية السعودية تموضعها وبوصلة علاقاتها عموماً وفي الإقليم خصوصاً لتتعامل بمنطق الدولة الوازنة ذات القدر والنفوذ وفق حجمها ووزنها، وبما يحقق تنفيذ رؤية ابن سلمان 2030 التي تبدأ بسياسة تصفير أزمات المنطقة، فكانت البداية بتوقيع الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية، والانفتاح العربي على سورية، وعودة سورية إلى الجامعة العربية، وسبق ذلك المصالحة السعودية التركية، وعدم اصطفاف المملكة ضمن جوقة العداء والعقوبات على روسيا، بل تمرّدت على طلب الولايات المتحدة برفع إنتاج النفط، والتزمت بقرار “أوبك بلس” بتخفيض إنتاج النفط وبما يضمن مصالح دول المنظمة.
في ظلّ هذه التبدّلات الكبيرة، وأزمات كيان الاحتلال الصهيوني السياسية والاقتصادية والأمنية، وتآكل قدرة الردع لديه، وخاصة بعد معركة ثأر الأحرار، وأزمات الولايات الأميركية المتحدة السياسية والاقتصادية والأمنية، والاستقطاب المجتمعي الحادّ الناجم عن الانقسامات والصراعات بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وتصاعد لغة العنف على وسائل التواصل الاجتماعي بالتهديد بحرب أهلية، سارعت الولايات المتحدة لامتصاص ومحاولة احتواء ملفات التسوية في منطقة غرب آسيا، بما يخدم مصالحها، وعلى رأسها أمن كيان الاحتلال الصهيوني، لتكون جزءاً من الحلول المقترحة، وضمان عدم خروج حلفاء الأمس وتفلّتهم بشكل نهائي من تحت العباءة الأميركية، وترجم ذلك بزيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن للرياض، والبيان الأميركي الخليجي المشترك الذي صدر عقب الاجتماع الوزاري المشترك للشراكة الاستراتيجية بين دول مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة في 7 حزيران، وما تضمّنه من تأييد للسياسة السعودية بالالتزام بالحلّ السياسي في سورية، ووحدة أراضي اليمن وسيادتها، والعودة إلى تبنّي المبادرة العربية للسلام بشأن القضية الفلسطينية والصراع العربي الصهيوني، أيّ بمقاربة جديدة للتعامل الأميركي مع السعودية، بالتوافق على خفض التصعيد في المنطقة، وأخذها نحو نوع من الاستقرار، على حدّ تفاصيل البيان، علماً أنه كان لافتاً للنظر مقال نُشر في مجلة “مودرن بوليسي” الالكترونية الأوروبية عن موضوع التحوّلات السياسية فيما أطلقت عليه “عصر مساعدة الذات في ما بعد شرق أوسط أميركي”، مؤّكدةً أنّ الدول الخليجية ستسعى إلى تشكيل تحالفاتها الخارجية بناءً على مصالحها في المنطقة، وبدأت المقال “غياب كرم الضيافة السعودي المعروف”، والذي بدا واضحاً أثناء الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى السعودية، والتي جاءت أصلاً بهدف “إصلاح العلاقات المتوترة”، وبأنّ الولايات المتحدة تخسر حلفاءها التقليديين.
وبالتالي وبناء على ما سبق ووفق النقاط التالية:
ـ حتمية الانتصار الروسي ولو بعد حين في الحرب الأوكرانية وفق نتائج الميدان، والانقسامات الأوروبية بشأن انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو.
ـ تسارع وتيرة مفاوضات الاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة الأميركية بوساطة عمانية قطرية، ووفق مؤشرات تنبئ أنه على طريق إعادة التوقيع من خلال الإفراج عن بعض الودائع الإيرانية المحتجزة في العراق وكوريا الجنوبية واليابان، إضافة إلی صندوق النقد الدولي، والتي تبلغ 24 مليار دولار ودخول البنك المركزي العُماني علی خط هذه الصفقة، لترتيب صرف هذه الودائع في الاعتمادات الإيرانية المفتوحة لشراء الغذاء والدواء.
ـ اكتشاف حقل الليثيوم الإيراني “يحتوي على 8.5 مليون طن ـ ثاني أكبر حقل في العالم بعد حقل في تشيلي ـ ويقع في مقاطعة همدان، غربي البلاد” الذي يمكن أن ينهض بالاقتصاد الإيراني، ويُبطل فعالية العقوبات المفروضة عليها إضافة إلى تعزيز موقع إيران الاقتصادي وحضورها الجيوسياسي.
ـ إطلاق السعودية “طريق حرير” عصري جديد بين ‏الصين والعرب خلال افتتاح النسخة العاشرة لـ”مؤتمر الأعمال العربي الصيني”، في العاصمة السعودية الرياض يوم الأحد 11 حزيران من العام الحالي، على لسان وزير الاستثمار السعودي خالد الفالح مؤكداً أنّ ما تحتاجه المملكة في مرحلتها التنموية استثمارات صينية ذات قيمة مضافة عالية، وربط المنطقة ببعضها ومحيطها في أفريقيا وأوروبا وفي آسيا بقيادة الصين، وبأنّ “السعودية ملتزمة بالعمل كجسر يربط العالم العربي بالصين ويسهم في النمو وتطور علاقتنا”، وبما يحقق المواءمة بين رؤية المملكة 2030، ومبادرة الحزام والطريق الصينية.
ـ إعادة تأكيد مجلس التعاون الخليجي في بيانٍ أصدره في ختام انعقاد مجلسه الوزاري الـ156 في الرياض يوم الأحد الماضي 11 حزيران، “مواقفه الثابتة تجاه الحفاظ على وحدة أراضي الجمهورية العربية السورية، واحترام استقلالها وسيادتها على أراضيها”، ورفض التدخلات الإقليمية في شؤون سورية الداخلية، ودعم الحلّ السياسي للأزمة السورية “وفقاً لقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة”.
نلاحظ تغيّر متسارع لميزان القوى الإقليمي، يبشر ويفرض قرب انهاء تواجد الاحتلالين الأميركي والتركي للأراضي السورية، وبما يعزز روابط دول منطقة غرب آسيا، ويبدّد نفوذ الولايات المتحدة الأميركية، لتشهد المنطقة عصراً جديداً يجعلها عنصراً فاعلاً على خريطة العالم الاقتصادية…
*باحثة واكاديمية سورية
[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى