مقالات وآراء

اصطفافات سياسية جديدة لكن لا شيء في الأمن

‭}‬ د. علي أكرم زعيتر
شرع بعض المحللين السياسيين في لبنان، مؤخراً، في الترويج لما أسموها بلحظة (الحسم)، ظنّاً منهم أنّ المقاومة قاب قوسين أو أدنى من توجيه صفعة مدوية للأفرقاء اللبنانيين المناوئين لها، لا سيما بعد تموضع جنبلاط الأخير، وإعلان كتلته النيابية الصريح بترشيح جهاد أزعور لمنصب رئاسة الجمهورية، بدلاً من تبني خيار سليمان فرنجية.
قسم من هؤلاء المحللين ذهب بعيداً في تحليلاته الخنفشارية، فزعم أنّ لديه معلومات مؤكدة حول تحضيرات تقوم بها المقاومة، على غرار التحضيرات التي سبقت 7 أيار، متناسياً أنّ المقاومة بعقلائيتها المفرطة، لم ولن تجرّ البلد إلى أتون صراع عقيم، لا طائل منه.
لـ 7 أيار أسبابه الموجبة التي لم يكن ينفع معها السكوت أو التغاضي. المنطقة آنذاك، كانت قد دخلت العصر الأميركي من بابه العريض، وكان لا بدّ معه من تسديد صفعة قوية للمتآمرين والمتهافتين. كان لا بدّ من إقناع مهندسة الشرق الأوسط الجديد (كونداليزا رايس) ومَن خَلفَها في منصب وزارة الخارجية الأميركية، أنّ محور الممانعة لا يزال هنا. لا يزال واقفاً بكلّ إمكانياته يواجه الرياح الأميركية العاتية التي عصفت بالمنطقة بُعيد احتلال العراق عام 2003.
أما اليوم، وقد خرجت المنطقة من عصر الأحادية القطبية، ودخلت عصر التفاهم السعودي ـ الإيراني، برعاية صينية، فمن غير المناسب الحديث عن تحضيرات يقوم بها الحزب لتأديب المعاندين والمتآمرين. للحزب شأن يغنيه، ولهؤلاء ربٌّ قد تخلَّى عنهم (أميركا)، وما عاد يناطح لأجلهم أحدا. لقد أثبت هؤلاء على مدى السنوات الماضية أنهم قليلو الحيلة، وعديمو الوسيلة، فما حاجة أميركا بعدُ بهم؟!
البلد تحكمه توازنات كبرى، والمقاومة تعي ذلك جيداً، لذا من غير المتوقع برأينا أن تبادر إلى أيّ ردّ فعل حيال الاصطفافات الرئاسية الجديدة التي بانت معالمها جيداً عقب إعلان جنبلاط موقفه الأخير. أضف إلى ذلك أنّ المقاومة، تحترم اللعبة الديمقراطية، وليست بوارد المسّ بها بأيّ شكل من الأشكال، إلا إذا تبيَّن لها بناءً على تقاطع المعلومات الاستخبارية والتحليلات السياسية أنّ هناك أمراً ما يُعدُّ للنيل منها أو الإطاحة بها، فهل من مكيدة ما تدبّرها السفارة الأميركية بمعية جنبلاط والأحد عشر صحناً لاقطاً (وضاح الصادق وفرقته للفنون الشعبية)؟
من يراجع أرشيف جنبلاط، يدرك أنّ الرجل يمرّ حاليّاً في ما يُسمّى مرحلة المراجعة الذاتية للاستفادة من أخطاء الماضي، وهي مرحلة يمرّ بها معظمنا خلاله حياته، وغالباً ما نتعظ من تجاربنا المريرة، كلما أعدنا شريط الأرشيف إلى الوراء.
صحيح أنّ جنبلاط أجرى مراجعات عديدة خلال السنوات القليلة الماضية، وصحيح أنه اكتشف ثغرات كثيرة في جدران سياسته المحلية والإقليمية، ولكنه على ما يبدو لم يتعلم كثيراً من أخطاء الماضي، أو لعله لا يزال يراهن على «حكمة» واشنطن. وإلا فكيف نفسّر خطوته الأخيرة؟ هل تبلّغ الرجل برسالة ما؟ هل وصله أمر عمليات عبر إحدى قنوات الاتصال السرية مع واشنطن؟ أم أنّ ما فعله لا يعدو أن يكون ترجمةً لقناعاته الشخصية، باعتبار أنّ أزعور ــ وفقاً لقناعته الشخصية ــ هو الأقدر على الخروج بالبلاد من مستنقع الانهيار الاقتصادي؟
لا أحد يدري ما الذي حدا به إلى اتخاذ هذه الخطوة، ولكن من المؤكد بالنسبة لنا أنّ جنبلاط لا يمارس قناعاته الشخصية! لم يُعهد عن الرجل يوماً أنه عمل بمقتضى قناعاته الشخصية. لطالما كان يعمل كجهاز إرسال يلتقط الذبذبات والموجات الراديوية، وفي أحسن الحالات كبريد رسائل، وعليه، لا بدّ أنّ مجَسَّاته قد التقطت شيئاً ما، وعلى هذا الأساس قرّر التصرف.
حاول البعض أن يحمّل المناورة البرية التي أجرتها المقاومة في معسكر عرمتى بمناسبة الـ 25 من أيار رسائل داخلية وخارجية، أما المناورة الجوية التي أجرتها في العاشر من الشهر الحالي فإنّ رسائلها خارجية بامتياز. ولكن من يعرف ذهنية قادة المقاومة، يدرك جيداً أنّ مناوراتها العسكرية ليست معدّة لبازارات الداخل. فـ للداخل رسائله الخاصة التي تجيد المقاومة استخدامها في الوقت المناسب، وهي بكلّ تأكيد ليست رسائل من هذا القبيل (عسكرية) كما يتوهّم بعض المتحمّسين.
عَهْدُنا بحزب الله أنه لا يهزّ العصا في ما خص بازار الرئاسة، وهذا ما يؤكد أنه لن يقدِم على أيّ خطوة من خارج السياق المعهود، حتى ولو كانت شبيهة بالقمصان السود.
قبل انسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005، لم يكن حزب الله يعبأ كثيراً بالملفات الداخلية، لا سيما ملف الرئاسات الثلاث، فهناك من يتولى إدارة هذا الملف بنجاح (سورية)، ويحمي ظهير المقاومة. ولكن بعد الانسحاب تبدّلت الأمور، وبات لزاماً على الحزب التدخل حمايةً لظهر المقاومة.
منذ الانقلاب الكبير (اغتيال الحريري، وانسحاب الجيش العربي السوري)، عام 2005، حتى اليوم، تعاقب على كرسي الرئاسة ثلاثة رؤساء، اثنان مؤيدان للمقاومة (لحود، عون)، وواحد مناوئ لها (ميشال سليمان)، فهل سمع أحد بأنّ المقاومة استخدمت نفوذها العسكري من أجل فرض مرشحها على اللبنانيين؟
‏حتى المرة الوحيدة التي اضطُر فيها حزب الله وحلفاؤه لاستخدام السلاح في الداخل (7 أيار 2008)، والتي أعقبتها بطبيعة الحال تسوية رئاسية على يد القطريين، فإنّ الحزب، أو أيّاً من حلفائه لم يستثمر ما جرى في ٧ أيار لفرض مرشح رئاسي بالقوة، بل على العكس من ذلك تماماً، فقد وصل إلى سدة الحكم، عقب تلك التسوية، ميشال سليمان صاحب المعادلة الخشبية، والمعروف جيداً بمناوءته للمقاومة ولمشروعها التحرري!
إنّ الأحداث الراهنة، في المنطقة، والاتفاقيات والتسويات، التي باتت تكرّ كالسبحة، والتي كان آخرها المصالحتان السعودية الإيرانية، والسعودية السورية، وما يُحكى في الأروقة الضيقة حاليّاً، حول تسوية إيرانية أميركية، أعادت الروح للاتفاق النووي. إنّ كلّ ذلك مجتمعاً، يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أنّ الأمور في لبنان متجهة نحو المعالجة الدبلوماسية بعيداً عن السلاح ومنطق القوة.
لا يدري أحد ماذا سيحصل بالضبط، ولكن من المؤكد أنّ المقاومة لن تنجرّ إلى أيّ صدام داخلي، حتى ولو كان بمقدار ضربة كفّ!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى