مقالات وآراء

انتخابات رئاسة المجلس: باب المناورة مقفل… وأوراق الثنائي كثيرة كسر الخطوط الحمراء انقلاب على الطائف نتيجته شلل مؤسساتي

} علي عوباني*

طويت صفحة الانتخابات، لكن يبقى السؤال الأهمّ الذي يطرحه الجميع اليوم هو ماذا سيحصل غداً؟ وكيف سيرتسم المشهد السياسي والسلطوي في لبنان؟!

انتهت عملية الضمّ والفرز، وتعداد الأصوات، وقياس أحجام التكتلات النيابية، لتبدأ بعدها محاولات قراءة واستشراف طبيعة وملامح المرحلة المقبلة، ومصير الاستحقاقات الدستورية المقبلة، بالاستناد إلى ما أفرزته نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة، وجملة المؤشرات التي خلصت إليها ليبني عليها، ويحدّد على أساسها بوصلة التوجهات المستقبلية، وما إذا كانت سلمية، أو صدامية، ولعلّ من أبرز تلك المؤشرات:

1 ـ موازين القوى الجديدة: لا سيما أنّ الانتخابات الأخيرة لم تفرز أكثرية واضحة وحاسمة لفريق على حساب آخر كما اعتدنا في دورات انتخابية سابقة.

2 ـ المتغيّرات الطارئة على المجلس الجديد: ونعني بذلك دخول ما سُمّي بـ «قوى التغيير»، علماً أنّ هؤلاء أنفسهم ليسوا كتلة أو رأياً واحداً. وبالتالي هم سيُصنفون في هذا الفريق أو ذاك، أولاً، وفق، معيار التأييد أو العداء لخيار المقاومة، وثانياً وفق معيار الاستحقاقات الداخلية ومشاريع واقتراحات القوانين المطروحة على مجلس النواب، ووقوفهم الى جانب مصلحة الوطن والمواطن، أو رضوخهم للأجندات والمصالح الخارجية.

3 ـ تمايز جنبلاط عن الفريق الآخر: سيحاول جنبلاط كعادته استعادة تموضعه الشهير بـ «بيضة القبان» مع أرجحية في ميوله للفريق المناهض للمقاومة في المسائل المتعلقة بسلاحها والموقف من سورية، وبذلك سيكون حتماً فريقاً رابعاً يُصنّف بحسب القطعة، فتارة يُحسب على «القوات اللبنانية» وحلفائها وتارة على الممانعة وحلفائها، دون أن يُحسب على فريق التغيير، حتى لو تلطى بهم أو تماشى معهم أحياناً كونه من أركان منظومة السلطة منذ أكثر من ثلاثين عاماً.

4 ـ غياب تيار «المستقبل»: بما يعنيه ذلك من غياب الكتلة السنية الوازنة والمؤثرة على الحياة السياسية، والاستحقاقات الدستورية، وخصوصاً تسمية رئيس الحكومة، وتشكيلها، وهنا يبدو أنّ كلمة السر ستكون للمملكة السعودية عبر مندوبها السامي وليد البخاري، والذي نصّب نفسه «زعيماً» للسنة في لبنان، بديلاً عن الحريري كما يبدو، سواء عبر جوجلة الأسماء المطروحة لرئاسة الحكومة، ومنها عودته لتسويق اسم نواف سلام من جديد، أو عبر تكليف السنيورة قبل الانتخابات لقيادة ماكينة انتخابية تجييرية رافعة للوائح القوات في مختلف الدوائر، وبالتالي اختزال طائفة وإلحاقها بأكملها بمشروع قواتي متهوّر، أو عبر السعي بعد الانتخابات للملمة شراذم 14  آذار لتشكيل كتلة نيابية كبيرة رأس حربتها «القوات» لمواجهة حزب الله.

بالطبع، المؤشرات المذكورة أعلاه، ليست وحدها الميزان الفاصل والحاكم في اللعبة السياسية الداخلية، وبالتالي لا يمكن فصلها عن التطورات والقراءات الدولية والإقليمية لنتائج الانتخابات. وهنا يمكن الركون إلى ثلاث قراءات مختلفة:

ـ الأولى: القراءة الأميركية، وقد عبّر عنها مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق ديفيد هيل في مقاله الأخير الوارد في موقع WILSON CENTER، والذي دعا فيه إدارة بلاده إلى حسم مسألة ما إذا كان لبنان يشكل أولوية لها، كما أقرّ بخمسة اعترافات:

أ ـ اعترافه بوهم الرهان على أنّ التخفيف من وجود حزب الله البرلماني وتحالفاته النيابية تقلّل من قوّته.

ب ـ إقراره بحصول فريق تكتّل حزب الله وأمل على تأثير حاسم على الخيارات السياسية المقبلة.

ج ـ إقراره بأنّ مكاسب المعارضة المسيحية لحزب الله غير كافية لقيادة السّاحة السّياسية.

ـ اعترافه بفشل المقاربة الأميركية للبنان ووصفها بأنها “متذبذبة وليست مثالية”.

هـ ـ اعترافه بفشل العقوبات (“قصة خرافية”) على حلفاء حزب الله من غير الشّيعة لتقويض قوّته.

الثانية: قراءة سعودية عبّر عنها سفيرها في بيروت وليد البخاري في تغريداته المتكرّرة وحركة زياراته الدائمة، وكذلك إعلامها وأدواتها في الداخل (جعجع، ريفي، مخزومي…)، وهي تستعجل قطف ثمار انتصارها المزعوم في الانتخابات عبر رفع سقف الخطاب والتحدّي وصولاً الى محاولة كسر الخطوط الحمراء التي كرّسها اتفاق الطائف من خلال طرح تغيير رئاسة المجلس ومنع نبيه بري من الوصول إليها، علماً أنّ طرحاً كهذا هو بمثابة استهداف لطائفة بعينها، كونه يأتي تحت عنوان التغيير ولكنه لا يطال إلا موقعاً واحداً من مواقع السلطة دون غيرها. وبالتالي فإنّ قراءة هوجاء كهذه لا بدّ أن تفضي إلى نتائج كارثية ومواجهة متعدّدة الأوجه قد لا تقتصر على الأطر الدولاتية.

الثالثة: قراءة فرنسية وتبدو الأكثر واقعية كونها تأخذ كعادتها الوضع المالي والاقتصادي بعين الاعتبار، مستندة الى تجارب المؤتمرات الباريسية السابقة. وهي تقرّ بضرورة تأجيل الملفات الخلافية في المرحلة الحالية، وخصوصاً سلاح حزب الله. وتسعى لفتح كوة في جدار الأزمة، عبر جمع الأطراف المختلفة على طاولة حوار أو مؤتمر للحوار، لتسهيل تمرير الاستحقاقات الدستورية من تشكيل حكومة وانتخاب رئيس للجمهورية في مواعيدها. وهذه القراءة قد تكون الأقرب إلى طروحات محور المقاومة الحريص على استعجال حلّ أزمة البلد، وإنْ كانت تسعى عبر وساطتها إلى محاولة استعادة نفوذها التاريخي في لبنان والحفاظ على استثماراتها ومصالحها به وتعزيزها.

على ضوء ما تقدّم، يتضح أنّ معالم المرحلة المقبلة، ضبابية تميل الى السوداوية، إذا لم يجر عقلنة الخطاب السياسي لدى الرؤوس الحامية، التي استعجلت طرح مواقف لا تأتلف مع ماهية اتفاق الطائف، وتخالف صيغة العيش المشترك، والشراكة الوطنية، لا سيما لجهة تلويحها بانتخاب رئيس للمجلس النيابي من غير الطائفة الشيعية، مع ما يعنيه ذلك من كسر كلّ المحرّمات والخطوط السياسية الحمراء ، رغم علم أصحاب هذه النظريات الطوباوية، بأنّ باب المناورة مقفل أمامهم، وأنهم بمجرد أن يحطوا أرجلهم على الأرض بعد الانتهاء من نشوة احتفالهم بانتصارهم المزعوم لا بدّ أنهم سيشعرون، بأوهامهم وأضغاث أحلامهم، وهو ما بدأنا نتلمّسه في اليومين الأخيرين، من تراجع تصعيدهم بانتخابات رئاسة المجلس، خصوصاً أنهم يعلمون علم اليقين، أنّ فريق المقاومة لن يخلي لهم الساحة بهذه البساطة، ويدركون أنه يمتلك وحده دونما حلفائه من الأطياف الأخرى أوراق قوة جمّة منها:

1 ـ وكالة تمثيلية شعبية شيعية كاملة غير منقوصة 27/27 نائباً، هي بمثابة دمغة ميثاقية لأيّ سلطة دستورية ستنشأ، تنفيذية، تشريعية، ورئاسية.

2 ـ وكالة حصرية بترشيح رئيس للمجلس، دون أن ينازعه أو يحاول أحد ابتزازه فيها، لتحسين شروطه، أو محاولة مقايضته رئاسة المجلس مع رئاستي الحكومة والجمهورية، لا سيما بعدما برز في الأيام الأخيرة مَن ذهب لتحديد مواصفات لرئيس المجلس (معيارها الوحيد أنها لا تنطبق على الرئيس بري)، ومن وضع دفتر شروط وبرنامج إصلاحي للإدارة المجلسية، كثمن لانتخاب بري رئيساً جديداً لمجلس النواب، ما دفع ثنائي أمل وحزب الله الى إعادة ترشيح بري لهذا الموقع، لسحب البساط من تحت المزايدين، وإخراج هذا الموقع من البازارات السياسية.

3 ـ وكالة دستورية، كرّسها القانون والأعراف الدستورية، أيّ انقلاب عليها يعد بمثابة إنقلاب على الطائف ودعوة لإعادة النظر بالرئاسات الثلاث وأعرافها: فهل تقبل الأحزاب والقوى التي رفعت الصوت عالياً بانتخابات رئاسة المجلس مبدأ “المداورة بين الطوائف في الرئاسات” الأولى والثانية والثالثة؟!

أما طرح مسألة التغيير في رئاسة المجلس، تحت شعار إلغاء الطائفية السياسية، فهو مخالف بحدّ ذاته للمفاهيم الدستورية التي أوجدت آليات محدّدة لتحقيق ذلك، منها الهيئة العليا لإلغاء الطائفية السياسية، ما يجعل هذا الطرح خارج التوقيت المناسب والسياق الدستوري المحدّد. وعلى فرض إمكانية تطبيق طرح كهذا، فإنه سيثير بلا شك مخاوف وهواجس من تطيير المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، ما يطرح تساؤلاً جوهرياً كيف يريد المزايدون الداعون الى التغيير بانتخابات رئاسة المجلس التوفيق بين هذا الطرح وبين الحفاظ على مكتسبات طوائفهم الدستورية التاريخية؟!

4 ـ وكالة تمثيلية ميثاقية، تجعل ثنائي أمل ـ حزب الله شريكاً أساسياً في القرار السياسي، ومحركاً أساسياً لمفاصل اللعبة السياسية الداخلية، إذ يستحيل تمرير أيّ قانون أو قرار بدونه، ويستحيل تشكيل حكومة أو تسمية رئيس للحكومة بدونه، كما يستحيل انتخاب رئيس للجمهورية من دونه.

5 ـ وكالة إطلاق عملية إعادة تشكيل السلطة: بمعنى آخر إنّ أيّ عرقلة لانتخاب رئيس للمجلس وانتظام هذا المجلس ستنعكس عرقلة للاستحقاقات اللاحقة من تشكيل الحكومة وانتخابات رئيس للجمهورية بعد أشهر قليلة، لكونه الاستحقاق الأول والمعبر الأساسي لباقي الاستحقاقات، فهل يحتمل الفريق الآخر حصول فراغ مؤسساتي كامل، وهل هذا في صالحه، وهو من يدّعي امتلاك الأكثرية، مع ما يعنيه ذلك من أنّ فرصته باتت سانحة للحكم والاستحواذ على مفاصله، ألا يظهر بذلك بمظهر من يعرقل نفسه بنفسه؟! ثم ألن يوضع حينها في خانة المسؤول عن تفاقم الأزمات المعيشية والمالية والاقتصادية التي يعانيها البلد، لتأخيره إعادة تركيبة السلطة، القادرة على معالجة وتسكين جراح اللبنانيين، ونزفهم اليومي.

6 ـ وكالة إسقاط ميثاقية المجلس: لعلّ من أوراق القوة إمكانية لجوء ثنائي حركة أمل وحزب الله الى مقابلة التصعيد بحال بلوغ ذروته بتصعيد سياسي وشعبي، قد يصل الى قلب الطاولة على الجميع بإستخدام ورقة مضمرة، تفضي الى استقالة النواب الشيعة من البرلمان، ما يفقده ميثاقيته، ويدفع بإتجاه انتخابات نيابية مبكرة. فهل يناسب الفريق الآخر تحمّل تبعات فرط مجلس النواب في مرحلة مالية واقتصادية حساسة لا تحتمل ترف الوقت والعودة الى الوراء؟!

في الخلاصة، إذا ما راحت السكرة وجاءت الفكرة، سيكتشف الكثيرون ممن سرحوا في خيالاتهم الواسعة، ونسجوا على أساسها تركيبة السلطة، مستندين الى “فوزهم الساحق الماحق”، الذي يمكنهم من “اجتثاث” الفريق الآخر، أنّ صيغة الحكم في لبنان جمهورية ديمقراطية توافقية، وليست إمارة سعودية إلغائية، وإلا فإننا ذاهبون الى مواجهة والى شلل مؤسساتي تامّ في لحظة مفصلية مصيرية، يعوّل عليها اللبنانيون لحلّ أزماتهم المعيشية، فهم لم يمنحوا أصواتهم للسياسيين لتجييرها في مشاريع وأجندات خارجية، بل منحوهم إياها لرفع أثقال الأزمة المالية عن كاهلهم دون تلكّؤ أو تقصير وبأسرع وقت ممكن.

*باحث قانوني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى