مقالات وآراء

كاسر الأمواج لا ينهي قوّة البحر الهادر…

‭}‬ صادق القضماني
أطلق الكيان الصهيوني قبل فترة إسم “كاسر الأمواج” على إحدى عملياته، بهدف الحدّ من تأثير موجات العمليّات الفدائية المقاومة الفردية، التي نفذها شباب فلسطينيون في الداخل المحتل، والتي أظهرت هشاشة أمنه الداخلي وعززت الفوبيا في عقول مستوطنيه، ليوجّه بعضهم مسؤولية هذه العمليات كردّ على أداء الحكومة في القدس والمسجد الأقصى كتعبير عن خطورة عمليات المقاومة على حياتهم، فهم لا يدرون مكان تنفيذها وتوقيتها مما يجعل كامل المناطق المحتلة من المستوطنين هدفاً.
مما لا شك فيه أنّ أثر عمليات المقاومة هذه زادت من تصدّعات المحتلين على كامل الأرض في فلسطين وخلقت نقاشاً عميقاً حول جدوى ما يمارسه جيشهم في المناطق المحتلة عام 67، وهذا يؤكد أنّ الكيان الغاصب فقد قدرتة على استثمار النضال الفلسطيني المقاوم لشدّ عصب مستوطنيه وتوحيدهم عبر ذهنية لعبة دور الضحية التي مارسها خلال عقود.
كاسر الأمواج عملية هدفت إلى النيل من الروح المعنوية المتصاعدة في داخل فلسطين، ومحاولة لإعادة الشعور بالأمن للمحتلين من خلال إعادة جعل مناطق الضفة الغربية وغزة ساحة المواجهة، فعمد صنّاع القرار إلى التقليل من خطورة هذا التطور المقاوم بالنيل من قادة المقاومة بهدف حصر المشهد على أنه فعل بعض الفصائل وليس أيضاً فعلاً فردياً يؤشر لغضب شعب كامل يقع تحت الإحتلال وكلّ فرد فيه يستطيع النضال على طريقته من خلال إمكانياته تحت ذهنية الجدوى من المقاومة، وهذا تحديداً ما أقلق وأربك قادة العدو ومستوطنيه، ولم يستطيعوا وضع حلول له.
هل استطاع قادة الكيان إنجاز الهدف المرسوم لعملية كاسر الأمواج؟ سؤال تجيب عنه الأحداث خلال الفترة الماضية وأحداث اليوم، والمؤكد أنّ تراكمات الوعي المقهور تزداد حضوراً في ذهنية الشعب الفلسطيني، لتنتقل تأثيراتها على الوعي التراكمي للشباب العربي بشكل عام، فحتّى لو كانت عملية الشهيد المقاوم محمد صلاح فردية، ولكنها بكلّ تأكيد تمثل ذهنية جيل واسع بين أبناء شعبنا العربي في مصر، بل شعبنا العربي في كلّ أقطارنا، مما أدخل قادة كيان العدو من جديد في قلق استراتيجي عميق، يبدو واضحاً بأنّ عقوداً من كي الوعي ذهبت هباءً أمام عملية لمدة ساعات حرّكت الشعور القومي المحق والذي بات يرى أن وجود كيان الاحتلال على أرض فلسطين ليس قدراً، وبالمقاومة يزول ويندحر.
هل إزالة اسم الرئيس الخالد عبد الناصر عن الأكاديمية العسكرية ووضع اسم بحيرة السدّ مكان بحيرة ناصر من قبل الدولة المصرية، هو بطلب وضغط من قادة الكيان الصهيوني بعد عملية الشهيد البطل محمد صلاح؟ لنقر أن ذهنية كاسر الأمواج حاضرة هنا، من خلال ربط الوعي أنموذجاً ملهماً في أمّتنا، لتمرير كيّ وعي جديد بهدف نسف الذاكرة الوطنية والقومية المقاومة التي مثلها عبد الناصر وباتت نهجاً وأساس الانتماء لأمة واحدة وفلسطين المحتلة قضيتها الأساسية؟
إنّ ذهنية الاستعمار لا تتعلم من التاريخ، ولا تعير تجاربها أيّ اهتمام، بل إنّ أصحاب ذهنية الاستعمار يبحثون في تطوير آلة حربهم واستخباراتهم فقط لتثبيت وجودهم أو إطالة أمد استعمارهم.
واستكمالاً، فإنّ عملية كاسر الأمواج هدفت أيضاً إلى تعزيز السيطرة والقضاء على العمليات الفردية داخل المناطق التي احتلت عام 48، ليفتح الشهيد محمد صلاح النار كعربي مصري داخل أراضي 48 المحاذية لحدود مصر العربية، وتجعل ذهنية كاسر الأمواج عملية فاشلة أمام أمواج الحق التي يتمسك فيها هذا العربي النموذج غير المنفرد بالذهنية، ومن ناحية أخرى، لن تكون المسمّيات الجديدة التي وضعت مكان اسم الزعيم عبد الناصر إلا سبباً آخر لتنامي المشاعر القومية الوطنية لتضع أصحاب القرار في وطننا العربي أمام غضب شعبهم في حال مارسوا دوراً وظيفياً جديداً لصالح الكيان الغاصب وهو الآن في عمق أزماته الداخلية، في عالم يتشكل من جديد على قواعد لا مكان فيها لاستعمار الشعوب وأراضيها خدمة لمصالح للاستعمار القديم وحماية لأنظمة وظيفية ذليلة.
لقد رأينا فشل ذهنية كاسر الأمواج على أراضي كفر شوبا المحتلة في جنوب لبنان، حيث أراد العدو الصهيوني إعادة رسم صورة القادر على أيّ فعل عسكري في منطقة يقف جنوده فيها قلقاً على رجل ونصف منذ سنوات، فهدف عملية كاسر الأمواج موجهة أيضاً لذهنية شعب المنطقة، لكسره والنيل من معنوياته، لكبح شجاعته، لإعادة هيبة الجندي المحتل، فتصدّى أهالي كفر شوبا ببسالة منقطعة النظير لمحاولات تقدم قوة احتلالية على الأرض، وقف مواطن لبناني من أصحاب الأرض أمام جرافة مصفحة، قتلت مثيلة لها بالماضي الناشطة راشيل كوري على أراضي غزة بذات الطريقة، وكأنّ العدو الصهيوني يريد استحضار تلك الجريمة ليجسّدها في ذهن المواطن العربي على أراضي كفر شوبا، لتظهر ذهنية العدو المهزومة، وتتوقف الجرافة بعد أن أحاطت التربة بالنصف السفلي للرجل الشجاع لتتراجع أمام الثبات والإصرار على المواجهة، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ تراجع الجرّافة ليس تعبيراً عن إنسانية الجندي الصهيوني، بل تأكيداً على أنه ومَن خلفه ويعطيه الأوامر باتوا يدركون عواقب أية جريمة من هذا النوع، مما يُثبت أنّ الأمواج تكسرهم هم وارتداداتها لا يمكن لأحد إيقافها.
هدفت عملية كسر الأمواج لإعادة المواجهة إلى داخل الأراضي المحتلة عام 67 وما شهدناه بالأمس في جنين جرّاء تطور طرق وأساليب المقاومة، من خلال العبوات الناسفة المتطورة التي أعطبت سبعة آليّات عسكرية متطورة يتفاخر بها جيش الكيان الصهيوني، وإصابة طائرة أباتشي وضعت خارج الخدمة بهدف إعادة إصلاحها، وسقوط قتلى وجرحى لجنود إسرائيليين، جعلت هدف تثبيت الردع يرتدّ إلى المستوطنين، لتفشل الفكرة الأساسية للعملية واسمها هذا، ليبحث قادة العدو الصهيوني عن معارك أخرى في مناطق ليست مسلحة ليحرز انتصاراته لعله يوقف تسلل الهزيمة المعنوية لأفراده الذين يترقبون مستقبلهم من خلال قدرات جيشهم وقوى أمنهم، ليصعد العدو في الجولان العربي السوري المحتلّ، تحت ذريعة تنفيذ مشروع الطاقة النظيفة والتي يعتبرها مواطنو الجولان المحتلّ مشروعاً للقضاء على عصب صمودهم “الأرض والزراعة” بهدف تهجير طوعي، أو سيطرة تحت مسميات أخرى.
هبّ أهالي الجولان للدفاع عن أراضيهم بوجه قوة صهيونية مدجّحة، واستطاعوا رغم قلة عددهم أن يحققوا بشجاعتهم الموصوفة، تفوّقاً حقيقياً أمام جنود وضبّاط مهزوزين مرتجفين يسعون لفرض الأمر الواقع، واشتبك معهم أهالي الجولان بصدورهم العارية ووسائلهم البسيطة مسلحين بالحقّ لتنسحب قوة الاحتلال أمام أمواج من الجيل الشاب الذين يتأثرون بلا شك من زرع ذهنية جدوى المقاومة والنضال كسبيل وحيد لتثبيت الحق وتحرير الأرض.
ومن المفيد في سياق الحدث الأخير على أرض الجولان المحتلّ الإشارة إلى أنّ ما حاول قادة الحركة الصهيونية زرعه في ذهن الفلسطينيين الموحدين الدروز خلال عقود، بات يتلاشى إذ رأينا إشارات مهمة من خلال خروج مئات من الشباب في قرى الجليل والكرمل، إقفال الطرقات الرئيسة نصرة لأهلهم وأقاربهم في الجولان، وفي معركة الوعي فإنّ الفعل حتى وإن بدا من منطلقات قربى أو طائفية، لكن في جوهره هو انتماء وطني ورفض للذهن الصهيوني، يراهن عليه وهم أهل لذلك.
لا بدّ من الإشارة إلى أنّ عدد سكان الجولان المحتلّ لا يزيد عن 25 ألف نسمة موزعين في خمس قرى على سفح جبل الشيخ في شمال الجولان، انتصروا في معركتهم ضدّ فرض الجنسية الإسرائيلية عام 1982 تحت شعار (المنيّة ولا الجنسية)، وسينتصرون في معركتهم التي تستهدف إفشال مشروع الطاقة البديلة المُراد إقامته على أراضيهم، وهم يعلون الصوت “الأرض لنا والجولان عربي سوري إلى الأبدّ”.
إنّ ذهنية كاسر الأمواج هي للحقيقة ذهنية جميع مراحل اغتصاب الأراضي العربية خلال عقود من الزمن وإنشاء كيان صهيوني على أراض فلسطين، ولكن هذه الذهنية فشلت في جميع مراحل نضال شعبنا الرافض للاحتلال وثبت فشلها بالمطلق بعد عشرين عاماً وأكثر على تحرير جنوب لبنان وتطور المقاومة في كلّ مكان، وثبيت ذهنية الجدوى منها.
يبدو أنّ قادة الكيان الغاصب اقتنعوا، بأنّ كاسر الأمواج لا يقف بوجه بحر غاضب هادر، فعملية كاسر الأمواج تحدّ من تأثير الأمواج العادية، ولكنها لا تنهي قوّة عمق البحر حين تصبح أمواجه مدمّرة لكلّ أسر الأمواج وتصل في عمق اليابسة، ولهذا نقرأ بين حين وآخر تصريحات لمسؤولين منهم عن اقتراب زوال كيانهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى