أولى

الثعلب الهرم والدفاتر القديمة

‭}‬ د. حسن أحمد حسن*
من المتعارف عليه والمسلّم بصحته أنّ التاجر المفلس يعود إلى دفاتره القديمة لعله يجد بين أوراقها ـ وإنْ كانت مهترئة أو مشوّهة وغير واضحة المضمون ـ بعض ما قد يساعده على مواجهة شبح الإفلاس المخيم، أو يؤخر إعلانه رسمياً، وإنْ كان لبعض الوقت على أقلّ تقدير، وهذا ما ينطبق تماماً على زيارة ثعلب السياسة الأميركية هنري كيسنجر إلى الصين، والاحتفاء باستقباله من قبل كبار المسؤولين الصينيين الذين رفضوا لقاءات مماثلة مع نظرائهم الأميركيين، وهذه بحدّ ذاتها رسالة واضحة المضمون، وصفعة مؤلمة حفرها التنين الصيني على مداخل البيت الأبيض وواجهات جميع الوزارات المرتبطة بإدارة بايدن المحكومة بهواجس مركبة في زمن تعدّد الخيبات الأميركية، وتنوّع الأولويات التي لم يعد تحقيق أيّ منها مضموناً جراء التناقض الحادّ بين المكوّنين الأساسيين في الاستراتيجية الأميركية، وهما:
1 ـ نزعة عدوانية متأصّلة حذفت من قاموسها: الشركاء والحلفاء والأصدقاء، وأبقت على الأتباع وأصحاب الأدوار الوظيفية انسجاماً مع مفرزات الأحادية القطبية، وهي تعيش حشرجات الأفول.
2 ـ عجز تراكمي يتبلور في ازدياد نوعي وكمي عن تنفيذ ما يتمّ اعتماده من أجندات عمل، بالتزامن مع رغبة جامحة لدى العديد من الدول في تمزيق العباءة الأميركية والانعتاق من المكوث في تلافيفها المجهولة والمرعبة وغير المرغوب فيها على أقلّ تقدير.
توقيت الزيارة ودلالاتها
أن يقوم مواطن أميركي ـ مغموراً كان أم مشهوراً ـ بزيارة إلى الصين أمر عادي، أما أن يتمّ الإعلان عن تلك الزيارة رسمياً في وسائل الإعلام الأميركية والصينية، فهذا يثبت أنها زيارة أكثر من رسمية، وقد تكون أكثر من حكومية، أيّ أنها تمّت بترتيب مما يسمّى «حكومة الظل» أو «الدولة العميقة» التي تتحكم بمفاصل صنع القرار الأميركي، وقد يكون العالمي، ويمكن باختصار الإشارة إلى بعض النقاط المهمة المتعلقة بالموضوع، ومنها:
ـ الحديث عن كيسنجر يختلف عن غيره من الأحاديث التي تخص هذا المسؤول الأميركي أو ذاك، سواء أكان لا يزال في الخدمة، أو من المتقاعدين الذين يطبّقون مبدأ «القيادة من الخلف» وترك الآخرين يظنون أنهم القادة، فالكاريزما الشخصية لكيسنجر مرتبطة بالنفوذ الأميركي منذ أكثر من نصف قرن كداهية سياسية ترك ـ بمكر وخبث ـ بصمته الواضحة في مسيرة تفرّد واشنطن بالقرار الدولي، وكان له الدور المفتاحي في تجاوز مخاطر أكثر المسائل الشائكة والمعقدة التي واجهت السياسة الأميركية، ونجح في تسهيل استواء عجلات القاطرة الأميركية على سكة النفوذ والهيمنة للإدارات الأميركية المتعاقبة، جمهورية كانت أم ديمقراطية.
ـ خصوصية الحالة الصينية وقدرة الصينيين على فهم طريقة التفكير المحدّدة للسلوك الأميركي الرسمي، والتعامل مع مفرزات ذاك التفكير الذي استندت إليه علاقة واشنطن ببكين بفضل الدهاء الخاص الذي مكَّن كيسنجر من فتح الثغرة في الجدار، وتهيئة البيئة الاستراتيجية المطلوبة لأول زيارة قام بها الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلى بكين في بداية سبعينيات القرن الماضي.
ـ الاهتمام الصيني بالزيارة لا يعكس رغبة صينية لمراعاة إدارة بايدن وملاقاتها في منتصف الطريق، بل على العكس يشدّد على قدرة الصين الاستثنائية في منح الزخم والفاعلية للجهود المشتركة لمعالجة القضايا الكبرى بندية تخرجها من خانة «الخصوم والأعداء» إلى خانة القوة العالمية التي لا ينصح بالتطاول على مصالحها العليا، ولا المساس بخطوطها الحمراء. وفي ضوء هذا يمكن فهم الامتعاض الأميركي الذي عبّر عنه المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض جون كيربي بقوله: «من المؤسف أن يتمكن مواطن عادي من لقاء وزير الدفاع وإجراء اتصال، ولا تستطيع الولايات المتحدة ذلك».
ـ كلّ ما صدر من أخبار عن الزيارة، وما تضمّنته، والمسائل التي تمّت مناقشتها، والتصريحات التي تمّ إطلاقها كان أحادي المصدر ومحصوراً بوكالة الأنباء الصينية الرسمية «شينخوا» التي نجحت في تعميم الرسالة الصينية كما تريد، وإضفاء هالة من الأهمية القصوى للزيارة التي تصدّر الحديث عنها الشاشات ونشرات الأخبار والكثير من وسائل الاتصال الاجتماعي، إضافة إلى المواقع الإلكترونية لكبريات الصحف ومراكز الدارسات الاستراتيجية الأوسع انتشاراً في العالم.
ـ سبقت الزيارة مواقف معلنة أطلقها كيسنجر تتعلق بالصين بشكل مباشر أو غير مباشر عبر تكثيف اللقاءات والمقابلات الإعلامية المتنوعة، وجميعها تركز على ضرورة تفادي أيّ احتكاك أميركي ـ صيني قد يقود إلى ما لا تحمد عقباه، ولا يخدم المصالح الأميركية، ويمكن هنا التذكير ببعض المواقف والعناوين، ومنها:
ـ تحذير كيسنجر لبايدن بعد فوزه على ترامب بالانتِخابات الرئاسيّة من خطورة الارتباط السياسي والعسكري المُتسارع بين الصين وروسيا، وضرورة العمل الجاد والسريع ـ وليس المتسرّع ـ لفكفكة عرى التفاعل والتكامل بين موسكو وبكين لأنه يهدّد استمرار الأحادية القطبية وتفرّد الزعامة الأميركية للعالم.
ـ مقاربة الحرب الأطلسية ـ الروسية بحذر شديد يوصل رسائل طمأنة غير مباشرة إلى بكين المتوجّسة من إمكانية تكرّر التجربة ضدّها في «تايوان» إذا نجح الناتو في تقليم أظافر روسيا على الجغرافيا الأوكرانية، وهذا يفسّر اقتِراح كيسنجر بعدم السماح لأوكرانيا بالانضِمام إلى «النّاتو»، أو الاتّحاد الأوروبي، وضرورة إلزامها بالبقاء على الحِياد، وليس هذا فحسب، بل وضرورة تفهّم الهواجس الجُغرافيّة والإثنيّة لموسكو، ولا ضير من تقديم تنازلاتٍ عن بعض المناطق الجُغرافيّة.
ـ الاعتماد على نقاط ارتكاز مسبقة عنوانها التشكيك الدائم في قدرة الصين وروسيا على العمل معاً بشكل جيّد، فهما بعرف كيسنجر ـ وإنْ كانتا تشككان بأيّ موقف أميركي، إلا أنهما ـ لا تثقان ببعضهما، ولدى كلّ منهما «ارتياب غريزي» تجاه الآخر، وبالتالي لا يمكن أن تكونا حليفين طبيعيين، وإذا كان هذا الكلام يعبّر عن قناعة فعلية لدى كيسنجر، أم يعبّر عن أمنية دفينة، ففي كلتا الحالتين من المتوقع أن يعمل كيسنجر وغيره من المسؤولين الأميركيين للحيلولة دون أيّ تعاون روسي ـ صيني، وأن يسعوا بكلّ السبل لبث التفرقة، وإذكاء نار الفتنة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
ـ استناداً إلى النقطة السابقة يمكن للمتابع الحيادي أن يرى بوضوح أنّ تطوّر الأحداث وتداعياتها ومرتسماتها على أرض الواقع تتجه بعكس البوصلة الأميركية. فالعلاقات الروسية ـ الصينية في أفضل أحوالها، والتنسيق الروسي الصيني يكاد يقترب من الذروة في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية. وهذا ما أكده الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين شخصياً، مشدّداً على أنّ «العلاقات الروسيّة ـ الصينيّة بلغت ذروتها التاريخيّة وبأعلى مستوياتها، وبأنّها تزداد رسوخاً وتكتسب المزيد من القوّة… وبأنّ الشراكة الروسيّة الصينيّة بُنيت دائماً على الثقة المتبادلة واحترام سيادة ومصالح كلّ منهما… وبأنّ البلدان يعملان سويّة لبناء نظام عالميّ متعدّد الأقطاب أكثر عدلاّ بناءً على القانون الدوليّ».
ـ المنطلقات ذاتها أكدتها الصين بشكل وبآخر، وبلسان رئيسها الذي تعمّد أن تكون موسكو أولى محطاته بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية، وذلك لتذكير من اعتادوا التجاهل والتناسي بأنّ روسيا والصين «أكبر قوتين جارتين، وأنهما شريكان استراتيجيان على كافة المستويات» والتأكيد على أن «الأولوية في العلاقات الاستراتيجية ستكون مع روسيا». وهذا أكثر ما يقضّ مضاجع صنّاع القرار الأميركي الذين كانوا ينتظرون إغراق موسكو في مستنقع أوكرانيا لضمان التفرّغ لمحاصرة الصين والاقتراب من أسوارها أكثر فأكثر، لكن النتائج المتبلورة حتى الآن تشير إلى عكس ذلك. فالعناق الحميمي بين الدب الروسي والتنين الصيني يؤكد دقة وجهة نظر بوتين عندما قال: «العلاقات مع الصين هي اليوم حجر الزاوية للاستقرار الإقليميّ والعالميّ، وهي تحفّز النمو الاقتصادي وتشكّل ضمانةً لأجندة إيجابية في الشؤون الدوليّة».
ـ العديد من الدراسات والمقالات التحليلية تناولت الزيارة من منطلق رغبوي لا يخفي الأمنيات المبطنة باصطفاف بكين في النسق الذي تقوده واشنطن، وإنْ كان تحت عنوان الشراكة وتقاسم النفوذ العالمي بين قوتين هما الأعظم وفق تصنيف تلك الدراسات، وهذا يقود تلقائياً إلى نتيجة أساسية عنوانها ترك روسيا وحيدة في مواجهة واشنطن وحلفائها، وإذ كان ذلك ممكناً بشكل نظري إلا أنه عملياً لا يمكن أن يرى النور، لأنّ بكين على يقين بأنه سينالها ما ينال موسكو إنْ سارت السفينة وفق هذه البوصلة. وقصة «الراعي الكذاب» لم تعد قابلة للنمذجة والتكرار في استراتيجيات القوى العظمى.
ـ لا يمكن الجزم ولا حتى التكهّن بما تسفر عنه زيارة كيسنجر للصين، لكنها في أسوأ الأحوال تشكل محطة لتخفيف التوتر وتفادي أيّ احتكاك غير مدروس العواقب، وهذا يعكس خشية أميركيّة من احتمال المواجهة العسكرية مع بكين لأيّ سبب كان، وفي الوقت نفسه لا مصلحة للصين في زيادة التوتر الحتمي جراء ارتفاع منسوب العدائية في سياسات واشنطن التي تبدو اليوم كتاجر مفلس يستعين بدفاتره العتيقة.
خلاصة
الزيارة مهمة ومحطة أساسية في تاريخ العلاقات الدبلوماسية، وأهمّ ما فيها لا يتعلق بما دفع كيسنجر لزيارة بكين، ولا بما حمله من وجهات نظر شخصية أو حكومية أميركية، بل في ما سمعه من المسؤولين الصينيين، وسيحمله إلى إدارة بايدن، ولا سيما الثنائية التي أكد عليها كبير الدبلوماسية الصينية:
أ ـ استحالة تغيير الصين، واستحالة احتوائها.
ب ـ السياسة تجاه الصين تتطلّب الحكمة الدبلوماسية لكيسنجر والشجاعة السياسية لنيكسون.
وهذا يعني أنّ الإفلاس الأميركي مفضوح، وجلي المعالم، وعلى واشنطن إعادة النظر في سياستها، وتدوير الزوايا الحادة والنتوءات المرفوضة في مواقف إدارتها التي تزيد من تآكل هيبتها ونفوذها، وإذا كان من نتائج مباشرة لزيارة كيسنجر فتكاد تكون محصورة في تبريد الصفائح الساخنة، وتأجيل اندلاع ألسنة اللهب عبر تايوان، في وقت لا تزال فيه إدارة بايدن منهمكة في كيفية التعامل مع امتدادات النار التي خلفتها العدوانية الأميركية بدفع أوكرانيا والغرب الأطلسي «الناتو وتوابعه» لفرض حرب على روسيا وإغراقها، ودفعها لثني ركبتيها ورفع الراية البيضاء. وهذا ما لم يحدث، فالحرب على الجغرافيا الأوكرانية لا تزال مفتوحة على المجهول.
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى