مرويات قومية

تأسيس الحزب ملامح أولى علّنا نستذكرها دائماً (2)

ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…
تُخصّصُ هذه الصفحة، لتحتضنَ محطات لامعات من تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، صنعها قوميون اجتماعيون في مراحل صعبة من مسار الحزب، فأضافوا عبرها إلى تراث حزبهم وتاريخه التماعات نضالية هي خطوات راسخات على طريق النصر العظيم.
وحتى يبقى المستقبل في دائرة رؤيتنا، يجب أن لا يسقط من تاريخنا تفصيل واحد، ذلك أننا كأمّة، استمرار مادي روحي راح يتدفق منذ ما قبل التاريخ الجلي، وبالتالي فإن إبراز محطات الحزب النضالية، هو في الوقت عينه تأكيد وحدة الوجود القومي منذ انبثاقه وإلى أن تنطفئ الشمس.
كتابة تاريخنا مهمة بحجم الأمة.

‭}‬ إعداد: لبيب ناصيف

تأسيس الحزب ملامح أولى علّنا نستذكرها دائماً (2)

 

من المعروف أن رفقاء عديدين شاركوا في ثورة العام 1936 في فلسطين، وفيها سقط الرفيق حسين البنا شهيداً في 23 أيلول 1936 ثم القائد سعيد العاص في 7/11/1936 أي بعد خروج سعاده من الأسر بيوم واحد.
الرفيق سعيد العاص له سجل حافل بالنضال، فقد كان قائداً للجبهة الشمالية في الثورة السورية عام 1925، ثم انضم إلى الثورة التي اندلعت في فلسطين عام 1936. هناك التقى بفرقة من المتطوعين للقتال أفرادها من مناطق متعددة ومن طوائف دينية مختلفة. كان فيها ابن الشوف وابن المتن وابن بيروت وابن صيدا من لبنان وأبناء حيفا والناصرة ويافا وما جاورها من فلسطين. وكان فيها المحمدي والمسيحي والدرزي. هي الفرقة الوحيدة التي اجتمع أفرادها على تعداد مناطقهم وتباعدها، اجتماعاً مقصوداً ظهروا فيه بوحدة روحية وفكرية متينة ميّزتهم عن جميع المجاهدين الآخرين. وكان تصرفهم النظامي في غاية الدقة والحماس.
استلفتت هذه الفرقة نظر القائد سعيد العاص فأعجب بروحيتها ونظامها إعجاباً كبيراً وحمله إعجابه على البحث عن سر روحيتها ونظامها فسأل أفرادها فأخبروه بأمرهم وعرفوه حقيقة العقيدة السورية القومية الاجتماعية التي يدينون بها. (الجزء الأول من سيرة شهداء الحزب-الخالدون).
نعود إلى سعاده وهو يدير الصراع من بيروت فنقرأ هنا مقطعاً ورد في خطبة ألقاها سعاده عام 1933 في النادي الفلسطيني في بيروت ففيه يتوضح كيف كان سعاده يستشرف أوضاع أمته، يقول: «إني أخشى أن تكون سوريانا آخذة في الانزلاق من أيدينا المتفرقة، ففي الجنوب تتراجع الخطوط السورية أمام الحدود اليهودية وفي الشمال تتقلص الحدود السورية أمام الحدود التركية».
وأيضاً نقرأ مقطعاً من رسالة سعاده إلى الرفيق عبد الله نعواس في فلسطين، بتاريخ 25 حزيران 1936، يقول فيها: «إن مركز الحزب اليوم في حالة لا يتمكن البعيد من تقديرها، فنحن في معركة شديدة وإن تكن صامتة مع قوى الحكومة والقوى الرجعية التي ترى في حركة الحزب السوري القومي خطراً على كيانها وهذا الضغط في مركز العمل يجعل اشتراك المركز في حوادث سورية غير ممكن من الوجهة العملية، لذلك اعتمدنا على مجهودات أعضائنا في تلك المناطق للقيام بواجبهم في هذه الظروف»، ثم يضيف: «إن وصيتي اليوم إليكم وإلى جميع السوريين القوميين في الجنوب هي أن يقوم كل فرد بما يدعوه إليه الواجب القومي في الظروف العصيبة الحاضرة وأن لا يسمح أحدكم باليأس يتسرب إلى قلبه عند مشاهدته الفوضى في العمل وما يؤدي إليه من نتائج بل أن يظل كلكم يؤمن بأمته التي لن تموت وبحزبه الذي يسير دائماً إلى أمام».
الاهتمام بالحدود الشمالية لسورية
في شهر كانون أول 1936 قام سعاده بجولته التاريخية إلى مناطق محافظة اللاذقية (منها صافيتا، مرمريتا، تلكلخ الخ…) وقد اعتبرت من أيام الحزب التاريخية، من حيث الاستقبالات الحاشدة التي أقيمت لسعاده، كما لخطبه في البلدات والقرى التي شملتها الزيارة، وأبرزها خطابه في صافيتا الذي نبه فيه إلى موضوع الاسكندرون قائلاً: «ومن الشمال يستفحل الخطر التركي على الحدود ويحاول أن يخترقها ويستولي على بقعة أخرى من البقاع السورية الخصبة الضرورية لحياتنا وتقدمنا»، ثم يضيف: «إني أعلن أن الاسكندرونة أرض سورية ضرورية لحياتنا وتقدم مصالحنا وإننا مستعدون للاحتفاظ بها مهما كلف الأمر».
في تلك الفترة وسعاده يواجه الانتداب الفرنسي ويتعرض للسجن، وأعضاء الحزب للملاحقات، وفيما الثورة قائمة في فلسطين، والغزوة اليهودية تشتد بحمى ودعم من الانتداب البريطاني، كان على سعاده أيضاً أن يواجه الخطر التركي في الشمال المتمثل في المؤامرة على لواء الاسكندرون التي لم تكن فرنسا بعيدة عنها، ولا بريئة منها. فالمذكرة التي وجهها سعاده إلى عصبة الأمم في 14 كانون أول 1936 كانت أول صوت يرتفع بهذا الشأن، وقد كرس سعاده هذا التاريخ باسم «ذكرى الحدود الشمالية» – لم يكتف سعاده بذلك إنما انتدب وفداً حزبياً لزيارة اللواء، وتقصي الحقائق (تألف من جورج عبد المسيح، صلاح شيشكلي، خالد أديب، جورج حداد، وإميل دباس) ثم راح بخطبه وبتحركه ومذكراته ومقالاته، خاصة في جريدة «النهضة»، يعطي موضوع الاسكندرون أقصى ما يستطيعه من اهتمام.
وهنا بعض الأمثلة:
في 14 كانون أول 1936 وجه سعاده مذكرة إلى عصبة الأمم جاء فيها: «إن الحزب السوري القومي يعد كل عمل يقصد منه بتر لواء الاسكندرون عن جسم سورية أو وضع حدود لسيادة الأمة السورية على هذا اللواء، خرقاً لحرمة سيادة الأمة السورية وللمادة الثانية والعشرين من عهد الجمعية الأممية ولكمال الأرض الوطنية السورية».
في 8 كانون الثاني 1937 وجّه سعاده مذكرة إلى المفوض السامي في لبنان والشام يعلن فيها استعداد الحزب لوضع العدد اللازم من المتطوعين مع أعضائه للمساعدة على الاحتفاظ بالسنجق السوري.
في 29 كانون الثاني 1937 نشر مقالة في جريدة «الشرق» جاء فيها: «إن فقد السيطرة السورية على لواء الاسكندرون خسارة لا تنحصر في دولة الشام بل تشمل لبنان وفلسطين وشرق الأردن والعراق، لأنها بقعة خصبة وموقع هام للتجارة والأعمال الحربية، وتهديد لا يقتصر على كيان الشام بل يتناول سورية الجغرافية كلها». وفي مكان آخر يقول: «إن الأمة السورية لا تريد أن تختنق بين الضغط التركي والضغط الصهيوني».
وفي شهر كانون الثاني أيضاً وجه سعاده مذكرة إلى الحكومة الشامية لفت فيها إلى أن إزالة السيادة السورية عن لواء الاسكندرون ووضعه تحت تقلبات السياسة والحزبية الأجنبية، يكون خسارة كبيرة للأمة السورية وإجحافاً بحقوقها وخطراً على كيانها وحياتها».
أعقبت المذكرة التي قدمها الحزب إلى الحكومة الشامية دعوة القوميين الاجتماعيين في دمشق إلى تنظيم مظاهرة اصطدمت ببعض العناصر الحزبية المناوئة «إلا أن جريدتين أو ثلاث من الرفقاء كفت للسيطرة على الموقف والاقتصاص من المعتدي» كما يقول سعاده في رسالته في أول تموز 1939 إلى القوميين الاجتماعيين مذكراً إياهم بأيام الحزب ومنها يوم دمشق.
في خضم ذلك تميزت الفترات القصيرة التي كان فيها سعاده خارج الاعتقال بمواقف العز وبالمواجهة العلنية مع الانتداب وأجهزته. منها أيام الحزب في كل من شارون، عماطور، وبكفيا، وهنا نضيء بسرعة على كل منها:
يوم شارون:
«يوم شارون» هو الاحتفال الشعبي الرائع الذي أقيم في شارون تكريماً للرفيق الشهيد حسين البنا، الذي سقط شهيداً في فلسطين والزعيم في الأسر. بعد خروجه من أسره الثاني (امتد من 30/6 إلى 12/11/1936) بادر سعاده فوراً إلى إقامة المهرجان لتكريم الرفيق الشهيد.
يقول الأمين عجاج المهتار الذي شارك في الاحتفال الشعبي: «إن التجمع كان في صوفر، وفي الموعد المحدد زحفت المواكب والعدد بالألوف يتقدمها الزعيم سيراً على الأقدام إلى شارون (طريق السيارات لم تكن قد وصلت) كان المهرجان رائعاً وخطاب الزعيم أكثر عظمة وروعة».
يوم عماطور:
كما كان لزيارة سعاده إلى محافظة اللاذقية في أواسط كانون أول 1936 أثرها الجيد، سياسياً وإذاعياً، وساعدت على نمو الحزب وانتشاره، فقد كانت الزيارة التي قام بها الزعيم إلى الشوف، وخاصة عماطور، تأكيداً على قوة الحركة السورية القومية الاجتماعية.
قبل زيارته عماطور كان سعاده قد زار بعقلين حيث كانت منفذية الشوف قد دعت المسؤولين المحليين للاجتماع بالزعيم الذي شرح مضمون التعاليم السورية القومية الاجتماعية بعد أن مر باستعراض الحالات المرضية السيئة التي وصلت إليها البلاد.
مديريات الشوف الأعلى دعت سعاده إلى زيارتها فوراً وعقد اجتماع في عماطور التي كانت شهدت المصالحة بين العائلتين الكبيرتين، عبد الصمد وأبو شقرا، بفضل العقيدة القومية الاجتماعية التي صهرت أبناء العائلتين المتخاصمتين تاريخياً في وحدة الإيمان والصراع.
المنفذ العام (الأمين كامل أبو كامل) كان يرى أنه بعد أن عقد الزعيم اجتماعاً ناجحاً في بعقلين فلم يعد من ضرورة لعقد اجتماع آخر في عماطور قد يعرّض الحزب لملاحقات جديدة، إلا أنه انصاع لقرار الزعيم، بينما تشبث نائب الزعيم صلاح لبكي برأيه بحجة أن الشوف منطقة معادية للحزب بسبب موقف «سيدة المختارة» التي يساندها الانتداب ويعتبرها ركيزة ودعامة كبيرتين له في هذه المنطقة، خصوصاً أن المتوجهين إلى عماطور سيمرون حكماً في المختارة، إلا أن سعاده قرر أن يتحدى السلطة في عقر دارها.
في 19 كانون الثاني 1937 تلاقت الوفود الحزبية من جميع أنحاء الشوف تتقدمها أعلامها الحزبية وتسير بخطى موزونة كأنها قطع جبارة من جيش مدرب عظيم.
كذلك حضرت القوة الحكومية المستنفرة وحضر معها قائمقام الشوف ناظم عكاري وقائد الدرك في بيت الدين نسيب دحروج. وأمام دار البلدية وساحتها كان التحدي واضحاً: قوة هائلة مستعدة لكل طارئ، وقوات حكومية تطوق الساحة، فيما قوة قومية اجتماعية أخرى خفية تطوق هذه القوات من على السطوح ومن جوانب المداخل إلى الساحة.
وصل الزعيم، فأبلغه القائمقام عكاري وقائد الدرك الأسباب الموجبة لإلغاء المهرجان، فأحالهما سعاده إلى المنفذ العام للتفاوض والمشورة.
في هذه الأثناء، بدا الزعيم خطابه، في وقت بدأ الرفقاء المسلحون فوق السطوح وعند المداخل يظهرون تباعاً، مما جعل السلطة المحلية ترى أن الاصطدام لن يكون لصالحها، كما أنه لم يعد بإمكانها إلغاء المهرجان، والزعيم كان قد بدأ الكلام.
يوم بكفيا
كانت الصحف قد راحت تتحدث بعد يوم عماطور عن الفشل الذي منيت به السلطة التي عجزت عن أن تحول دون عقد المهرجان. لذلك رغبت السلطة أن تعطل اجتماع بكفيا بعد أن كانت سمحت به لتظهر بمظهر القوة وتستعيد معنوياتها، فسيّرت قوة من الدرك مع أوامر صارمة بمنع إقامة المهرجان. مرة جديدة تفشل الدولة، ومحاولاتها اصطدمت بسد منيع أسفر عن جرحى من الطرفين وعن عدد كبير من البنادق المحطمة.
اعتقل رفقاء، ولوحق غيرهم، كما تمّت ملاحقة سعاده إلى أن اعتقل في المريجات عند حاجز للدرك، وكان متوجهاً إلى الشام في سيارة الرفيقة وداد ناصيف، ومعه جورج عبد المسيح. ما يهمنا هو البيان العنيف الذي أصدره سعاده في الأول من آذار 1937 بعد مهرجان بكفيا، ومنه نقتطع التالي:
«إننا نعلن أن كياناً من هذا النوع هو كيان فاسد من أساسه. فإذا كان للبنان كيان فهو كيان الشعب اللبناني كله. إذا كانت الطبقة الحاكمة في لبنان تعتبر أنها هي لبنان وأن الشعب ليس سوى الجماعة المحكومة فلنا الشرف أن نعلن أن من أهم أهداف الحزب السوري القومي الاجتماعي إزالة هذه الصورة السيئة لحياتنا القومية – صورة الحاكم والمحكوم – والقضاء على الامتيازات المدنية في الدولة .
«إن الدولة هي جمعية الشعب الكبرى وكل فرد من أفراد الشعب مشترك في حياة الدولة هو عضو في الدولة وما السوريون القوميون الاجتماعيون في لبنان سوى أعضاء في الدولة اللبنانية، وكل حكومة تحاول أن تربط مصير الشعب بمصيرها هي، تكون حكومة خائنة مصلحة الدولة. والحكومة التي تمنع أعضاء الدولة من التفكير في مصير دولتهم ومن استعمال حقوقهم المدنية والسياسية في تقرير هذا المصير حكومة قد تجاوزت حدودها وخرقت حرمة المبادئ التي تقوم هي نفسها عليها وعصت إرادة الشعب الذي له وحده حق تقرير مصيرها ومصيره. إن حكومة من هذا النوع يجب إعلانها حكومة عاصية. وإني أعلنها حكومة عاصية».
في الفترة بين يوم عماطور ويوم بكفيا، وبعد أن صنف دستور الحزب في 20/1/1937 – وقد أضيف إليه مرسوم رتبة الأمانة – دعي الأمناء الذين كان سعاده منحهم الرتبة إلى اجتماع في منزل نعمة ثابت، وبحضور الزعيم، تمّ انتخاب أول مجلس أعلى للحزب، ففاز بالعضوية الأمناء فخري معلوف، نعمة ثابت، مأمون أياس، جورج عبد المسيح، كامل أبو كامل، عبد الله قبرصي، ومعروف صعب.
وجرى الاقتراع على الرئاسة ففاز فخري معلوف برئاسة المجلس، (إنما استقال لاحقاً بسبب سفره فانتخب نعمة ثابت رئيساً).
الاعتقال الثالث وهو الأخير قبل مغادرة سعاده الوطن، تمّ في 9 آذار 1937، كما ان حملة الاعتقالات شملت المناطق اللبنانية كلها حتى أن عدد المعتقلين في سجن بعبدا وحده بلغ مئة وخمسة وثلاثون رفيقاً، والتهمة التي شملت الجميع هي تهمة العمل في حزب منحل.
خارج السجن تولى القيادة الحزبية الأمين أنيس فاخوري بعد أن كان سعـاده أصـدر، وهو في السجن، مرسوماً بتعيينه نائباً للزعيم له كل الصلاحيات الإدارية التنفيذية، إلا السياسية منها، وساعده في القيادة هيئة تنفيذية من مفوضين (جبران جريج للمالية، قاسم حاطوم للداخلية، إميل خوري حرب للإذاعة، وفريد مبارك الذي كان عميداً قبل الاعتقال).
لم تطل إقامة الزعيم في السجن، ذلك أن الدولة كانت مقدمة على خوض الانتخابات النيابية، وتحتاج إلى قوة الحزب، والحزب بدوره كان بحاجة إلى فترة من الراحة ليعيد تنظيم فروعه وأوضاعه.
لذلك فإن الاتصالات السياسية أسفرت عن هدنة بين الدولة والحزب، يوضحها سعاده في رسالته إلى غسان تويني بتاريخ 26 أيار 1946 إذ يقول:
«وما خرجت من السجن في أيار سنة 1936 حتى عدت إليه في حزيران سنة 1936 وفي السجن وضعت «شرح المبادئ» الذي بلور العقيدة وصفاها من التآويل غير المسؤولة ومن المخالطات الغريبة. وبعد خروجي من السجن الثاني ببضعة أشهر جرت اصطدامات بكفيا المشهورة وحصل السجن الثالث.
فيكون غياب الزعيم، موجد العقيدة وصاحب الدعوة، عن الحزب وعمله الإداري السياسي مدة سنتين تتخللها فترتان قصيرتان جداً. وكانت الحرب على العقيدة تشتد وكان يجب ارساخ العقيدة في الحزب وصيانته من الميعان المبادئي والأخلاقي المتفشي في شعبنا وإكسابه الصلابة والمناعة اللتين هما، مع رسوخ العقيدة، كل رأسماله المعنوي الذي يكسبه هذه المنزلة الممتازة في الأمة ويؤهله لبدء المرحلة الجديدة – مرحلة دخول ميدان السياسة العملية. والحقيقة ان هذه المرحلة كانت قد ابتدأت في زمن السجن الثالث حين شعرت الحكومة اللبنانية بمناعة الحزب وصلابته وحاجتها إلى التفاهم معه فابتدأت من جانبها بمفاوضة الزعيم في السجن فقبل الزعيم المفاوضة وتمكن من الفوز بذلك “التفاهم” مع الحكومة اللبنانية المؤلفة من حزب إميل اده – خير الدين الأحدب وكان من وراء ذلك الإفراج عن المعتقلين وعدم التعرض لحركات الحزب والسماح للصحف بنشر أخباره واكتساب الرخصة بإصدار جريدة «النهضة» وإصدارها أشهراً عديدة وطبع مبادئ الحزب مشروحة بقلم الزعيم وكتاب «نشوء الأمم».
عن ذلك يقول الأمين جبران جريج في الجزء الثالث من كتابه «من الجعبة» أن سعاده طالب، وحصل على ما يلي:
حرية العمل الحزبي، إنما دون علم وخبر رسمي.
إصدار جريدة تكون لسان حال النهضة.
منحه جواز سفر.
العفو عن كل الدعاوى الحزبية حتى تاريخه.
ويضيف أن سعاده أوضح في رسالة قدمها أن الحزب لا يعمل على هدم الكيان اللبناني، وهذا نصها:
«أنا أنطون سعاده أؤكد أن المبادئ القومية هي عقيدة علمية تعمل في سبيل تحقيق وحدة المجتمع ولا تعمل على هدم الكيان اللبناني».
في الفترة التي أعقبت خروج سعاده من الاعتقال الثالث، وحتى مغادرته الوطن حصلت أمور عديدة منها:
تمّ شراء آلة طابعة على الستانسل وإصدار أول نشرة إذاعية.
أصدر مكتب عبر الحدود أول بيان له وكان يرأسه فخري معلوف باسم مستعار: أنور عصام، (بتاريخ 2 تموز 1937). بعد أن كان أنشأ مكتب عبر الحدود في أواخر العام 1936.
بتاريخ 12 تموز نشر سعاده مقاله التاريخي «شق الطريق لتحي سورية» إثر عقد فرنسا وتركيا معاهدة صداقة في 4 تموز اتفق فيها الطرفان على تعزيز العناصر التركية في الاسكندرون.
في 25 تموز قام سعاده بزيارة طرابلس والكورة، وقد صنفها سعاده من أيام الحزب التاريخية.
شكل سعاده لجنة لوضع أسس التدريب العسكري وتمّ وضع كراس يضم الأسس للتدريب على النظام المرصوص ووضعت الكلمات العربية المناسبة.
في 14 ت1 1937 صدر العدد الأول من جريدة «النهضة» التي استمرت حتى بلغت 163 عدداً، ثم توقفت في 17 أيار 1938.
إنشاء المكتب الأعلى المختص (عرف بـ م.أ.م.).
دعا سعاده إلى عقد أول مؤتمر إداري – عقد في بيروت.
منح رتبة الأمانة لعدد من الرفقاء بعد أن كان منح الرتبة لمجموعة أخرى بعد تصنيف الدستور في 20/1/1937.
إنشاء الندوة الثقافية في خريف العام 1937، أول رئيس لها زكي نقاش والناموس فؤاد سليمان.
حضور سعاده إلى بلودان كي يكون على مقربة من المؤتمر الذي عقد فيها وموضوعه فلسطين وما يحاك حولها من مؤامرات. رافقه الرفيق الأمير أمين أرسلان وقام باتصالاته مع مختلف الشخصيات السورية والعربية التي حضرت المؤتمر. إنما عاد من بلودان يحمل معه انطباعات جديدة ترسخ في نفسه اعتقاده أن لا خير يرجى من هؤلاء، لا من أجل فلسطين ولا من أجل كيليكيا والاسكندرون.
طباعة “نشوء الأمم”، “كتيب التعاليم” و”الدستور”.
احتفالات الأول من آذار 1938، وأبرزها الاحتفال الذي أقيم في منزل الرفيق زكريا لبابيدي، والخطاب التاريخي الهام الذي ألقاه سعاده.
الانتصار للأديبة مي زيادة والاهتمام بها بعد أن اتهمها أقارب لها بالجنون طمعاً بمالها.
أما الأبرز فهي الانتخابات النيابية في كل من الشام ولبنان.
عن الانتخابات النيابية الشامية يقول الأمين الياس جرجي أن “الحزب خاضها في معظم المناطق بزخم قوي وفاعلية لفتت إليه اهتمام الأصدقاء والخصوم. وقد كان له في بعض الدوائر الانتخابية مرشحون من أعضائه، وأيد في المناطق الأخرى مرشحين من أنصاره».
في الانتخابات المذكورة نجح الياس الجرجس فكان أول نائب يفوز بدعم من الحزب في دائرة الحصن – تلكلخ. ومن جرائها خسر عزيز حديد رتبة الأمانة فجرد منها بسبب موقفه في الانتخابات.
الجدير بالذكر أن الحزب خاض الانتخابات في مواجهة لوائح السلطة في العديد من المناطق، مؤكداً على حضوره الجيد في الوسط الشعبي.
أما بالنسبة للانتخابات النيابية في لبنان فإن أوضح شرح لها هو ما ورد في خطاب الزعيم في أول آذار عام 1938 يقول: «جاءت الانتخابات اللبنانية بعد مدة قليلة من وقت خروجنا من السجن (في أيار 1937)، وكان جو هذه الانتخابات متجهماً والدعاوات سائرة على قدم وساق. وبرزت الأنانيات الجامحة على المسرح. وظن بعض أصحاب هذه الأنانيات أنه يستطيع تسخير الحزب السوري القومي الاجتماعي لأغراضه وتضحيته على مذبح شهواته. أما الحزب فتجاه ما كان متراكماً عليه من القضايا الجزائية وتجاه الحاجة إلى وقت لإعادة تنظيمه بعد نحو سنتين من اعتقالات وملاحقات لم يكن في حالة تسمح له بخوض المعركة الانتخابية بأساليبها الطائفية الفاسدة وإمكان شراء أصوات كثيرة بالمال فضلاً عن الاتجاهات السياسية، التي كنت أرى خطوطها بجلاء. ولذلك فضلت العمل لمصلحة الحزب، لا سيما ونحن لا فرق عندنا بين حكوميين ومعارضين في السياسة الحاضرة فكان موقف الحزب السوري القومي الاجتماعي في الانتخابات أعظم الانتصارات السياسية.
إن هناك أفراداً تعودوا تسخير الأحزاب التقليدية لمنافعهم الخاصة فظنوا أنهم ينالون من الحزب السوري القومي الاجتماعي ما كانوا ينالون من الأحزاب الأخرى. وقد ساء فألهم، لأن الحزب السوري القومي الاجتماعي يقول أن الأفراد يسخرون للقضية القومية لا القضية القومية للأفراد».
وإذا كان عزيز حديد قد سقط قومياً اجتماعياً في انتخابات الشام فإن عميد الإذاعة إميل خوري حرب سقط بدوره إذ كان من الطامعين بالترشيح عن منطقة البترون. راح يبتعد عن الحزب إلى أن انزوى كلياً.
سفر الزعيم
في 11 حزيران 1938 غادر سعاده بيروت متوجهاً إلى دمشق، فعمان حيث التقى الأمير عبد الله، فإلى حيفا حيث مكث أياماً قبل مغادرته إلى قبرص. فيها أمضى سعاده ما يقارب الشهر وجّه أثناءها العديد من الرسائل إلى المجلس الأعلى في بيروت كما إلى رفقاء في الوطن وعبر الحدود وفي 28 تموز غادر سعاده قبرص متوجها إلى إيطالياً، فإلى ألمانيا ومنها سافر إلى البرازيل.
مع بداية اغتراب سعاده تنتهي مرحلة المهادنة التي كانت قائمة بين الحزب والسلطات المحلية اللبنانية وبالتالي الفرنسية. كانت الهدنة قد دامت سنة كاملة وبضعة أيام.
كان سعاده قد ابلغ المجلس الأعلى أنه يزمع السفر إلى المغتربات لجمع مبلغ كاف يغطي النفقات المركزية، ولتنظيم فروع الحزب، قبل ذلك كان قد قرر في إحدى جلسات مجلس العمد ضرورة قيامه بجولة إلى مناطق عبر الحدود للسببين أعلاه. وقبل الموعد المحدد للسفر علم سعاده من مكتب حزبي مختص بجمع المعلومات الأمنية أن السلطات تتجه إلى اعتقاله فبادر إلى تقريب موعد المغادرة وترك بيروت في الموعد المشار إليه أعلاه. وبالفعل فقد بدأت السلطات بمداهمة مركز الحزب وبيوت القوميين لكنها فوجئت بأن سعاده ليس في لبنان، وبالتالي فإن الخطة التي وضعتها دوائر الأمن العام بالاشتراك مع بعض المراجع العليا من أجل القضاء على الحزب قد فشلت.
في عدد «سورية الجديدة» – التي صدرت في البرازيل – بتاريخ 11/3/1939 نقرأ لسعاده:
«في الحقيقة إن هذه الملاحقة الرابعة كانت بناء على ما بلغ دائرة الاستخبارات الفرنسية من قيام الحزب بتوسيع دائرة التدريب التطوعي وتوزيع بعض الخبراء العسكريين على يعض المناطق الاستراتيجية وإعداد الزعيم برنامج رحلته إلى المهاجر، فأوعز إلى مكتب التحريات بملاحقة الحزب والقبض على زعيمه وأركانه».
لذا انفجر حقد الدوائر المتربصة الحاقدة خاصة بعد أن عجزت عن معرفة مكان سعاده إلا بعد مرور شهر، فتبين لها أنه في قبرص. فيما كان مكتب التحريات (تولاه القاضي فرنان ارسانيوس) يقوم بحملات الدهم والبحث والاعتقال.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى