أولى

لأيّهما الأولوية اليوم: المهاجمة أم المدافعة في مواجهة العدو؟

‬ د. عصام نعمان*

لا غلوّ في القول إنّ «إسرائيل»، ومن ورائها أميركا، تشنّ حرباً شاملة على كلّ مَن تعتبره عدواً لها من دولٍ وفصائل مقاومة وشخصيات قيادية. حربها الإبادية هذه شملت وتشمل جميع دول محور المقاومة كما تنظيمات المقاومة في فلسطين ولبنان وسورية والعراق واليمن. باستثناء حربها الوحشية السافرة على الشعب الفلسطيني من النهر الى البحر، لا تعترف «إسرائيل» بما تقترفه من مجازر وجرائم بل تترك لأعدائها وضحاياها أن يتهموا أو يظنّوا بمَن يكون الفاعل.
آخرُ جرائمها الموصوفة التي استوقفت الناس الشرفاء كما المراقبين والإعلاميين اغتيالُ القائد المجاهد نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس صالح العاروري وقياديين آخرين من الحركة نفسها في ضاحية بيروت الجنوبية، وقيامها أيضاً بقتل وإصابة مئات المشاركين في مدينة كرمان خلال مراسم الذكرى الرابعة لاستشهاد قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني بغارةٍ لسلاح الجو الأميركي لدى وصوله آنذاك مع زميله المجاهد أبو مهدي المهندس الى مطار بغداد.
هبَّ ملايين الناس في عالم العرب والإسلام مندّدين ومطالبين بالاقتصاص من «إسرائيل» الجانية وحلفائها الأمر الذي شكّل ضغطاً هائلاً على القيادات في كلٍّ من لبنان وايران للردّ والاقتصاص من العدو الصهيوني وحلفائه. فكيف تراه يكون ردّ قائد المقاومة في لبنان السيد حسن نصرالله، والمرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية السيد علي خامنئي؟
السيد نصرالله أكدّ أن اغتيال العاروري «جريمة خطيرة لن تبقى من دون ردّ وعقاب»، مضيفاً أنه «إذا فكّر العدو الصهيوني بشنِّ حربٍ على لبنان، عندها فإن قتالنا سيكون من دون سقوف وضوابط».
المرشد الأعلى السيد خامنئي توعّد «الأعداء الأشرار والمجرمين بأن هذه الكارثة ستلقى رداً قاسياً بإذن الله».
كِلا القائدين تعهّدا، إذاً، بردِّ قاسٍ لكنهما لم يبادرا اليه سريعاً ما يعني أنّ الأمر جلل ويستوجب التأني والاستعداد لبناء القدرات اللازمة للمواجهة المنتظرة في الزمان والمكان المناسبين. لذا يمكن إعطاء موقفهما عنوان «الصبر الاستراتيجي»، وهو المفهوم الذي تبدّى في خطاب كلٍّ منهما.
تسنّت لي مؤخراً المشاركة في حلقةٍ ضمّت قياديين وخبراء ومفكرين معنيين بمواجهة الهجوم الصهيوني ـ الأميركي على الأمة ومصالحها الحيوية حيث جرت مناقشة المسألة الجوهريّة الآتية: لأيهما الأولوية في هذه المرحلة، للمهاجمة أم للمدافعة؟
قلتُ للمشاركين إنّ التحديات التي نواجهها في هذه المرحلة كثيرة وخطيرة، وإنّ أبرزها اعتداءات العدو الصهيوني المدعوم بسخاء مالي وعسكري منقطع النظير من الولايات المتحدة، والأصحّ تسميتها الويلات المتحدة، وأنّ حكومة بنيامين نتنياهو التي تدير الكيان الصهيوني في هذه الآونة تضمّ مجموعةً من الوزراء العنصريين المجانين الذين لا يتورّعون عن ارتكاب أفظع الحماقات. ألم يطالب أحدهم، بدعوى اختصار الوقت وتوفير الخسائر، بإلقاء قنبلة نووية على قطاع غزة؟ ألم يدعُ آخر الى تهجير سكان القطاع الى صحراء سيناء المصرية أو توزيعهم على مختلف البلدان العربية؟
لنعترف بلا حرج بأنّ «إسرائيل» أقوى عسكرياً من الدول العربية المحيطة بفلسطين المحتلة ما يرجّح قدرتها على مواجهتها جميعاً، مع العلم أنّ بعضاً من هذه الدول متصالح مع الكيان الصهيوني وبعضها الآخر يتضرّع الى أميركا كي تلجمه لتحمي حلفاءها من عدوانيته الفاجرة.
نعم، «إسرائيل» أقوى من العرب المتفرّقين ما يستوجب إعطاء القوى الوطنية الحيّة في الأمة، ولا سيما في الدول العربية المشاركة في محور المقاومة والمتعاونة مع تنظيمات المقاومة المقتدرة، الوقت والتسهيلات الكافية لبناء القدرات اللازمة لمواجهة العدو الصهيوني بالاشتراك مع تنظيمات المقاومة الناهضة، منذ أكثر من عشرين سنة، بالتصدّي لهذا العدو وحلفائه بكلّ الأسلحة المتاحة من أجل ردعه وفرض عليه قواعد صارمة للاشتباك، مثلما فعل حزب الله بعدما دحره في حرب العام 2006.
لهذا السبب دعا السيد حسن نصرالله، وبعده بساعات قلائل المرشد السيد خامنئي، الى اعتماد الصبر الاستراتيجي في الصراع مع العدو الصهيوني. الصبر هنا بمعنى الوقت الكافي لبناء القدرات اللازمة من جهة وتوعية الشعب وتعبئته من جهة أخرى كي تكون الدول الوطنية وقوى المقاومة الملتزمة قضية الأمة المركزية، فلسطين، كما سائر القضايا المحقة قادرةً وجاهزةً للانتقال بمرونة من حال المدافعة إلى حال المهاجمة.
غير أنّ اعتماد نهج المدافعة لا يعني بالضرورة وقف مهاجمة العدو كليّاً. فقد بادر حزب الله صباح السبت الماضي الى الردّ على اغتيال العدو للقائد العاروري بتدمير قاعدة ميرون الكبرى للمراقبة الجوية والاستطلاع الكائنة في عمق الجليل الأعلى المحتلّ.
قد يقول قائل: ألم يكن جديراً بحركة حماس أن تبقى في حال المدافعة الى ان يأتي وقتٌ تمتلك فيه دول وأطراف محور المقاومة القدرات اللازمة لمهاجمة «إسرائيل» ودحرها؟
أرى، وربما غيري كثر، أنّ لكلّ قاعدة استثناء. ففي حال قطاع غزة، وجدت قيادة حماس أنّ الضفة الغربية كما القطاع أيضاً مهدّدان بمخطط صهيوني خطير يرمي الى ابتلاعهما بمشروعٍ استيطاني معجّل التنفيذ على نحوٍ يؤدّي خلال فترة وجيزة الى ضمّهما الى دولة الاحتلال. لذا بادرت حماس المقتدرة مع شقيقاتها في قطاع غزة الى مباغتة العدو الصهيوني بما كانت قد أعدّت له طويلاً وبإتقانٍ نادر وهو ملحمة طوفان الأقصى ما أدّى الى اجتياح المستعمرات الصهيونية في غلاف غزة خلال خمس ساعات. هذا الإنجاز الاستراتيجي الساطع هزّ دولة الاحتلال، وأذهل زمرتها العنصرية الحاكمة، وحملها على مباشرة حربٍ همجية، متسرّعة، متخبطة ووحشية ضدّ المدنيين الفلسطينيين الأمر الذي كشف طبيعتها النازية الفاقعة وأدّى في مدى أيام معدودة الى تحقيق مكاسب استراتيجية بارزة:
ـ خلخلة بنية «إسرائيل» السياسية واندلاع أزمة ثقة ونزاع في صفوف مختلف تنظيماتها السياسية المتصارعة.
ـ خسائر مالية واقتصادية تربو، في تقدير مصرفها المركزي، الى اكثر من خمسين مليار دولار مع حلول العام الجديد.
ـ انهيار سياسة التطبيع مع الدول العربية والإسلامية.
ـ افتضاح عجزها، رغم تحالفها الجهنمي مع أميركا، عن الاستمرار في الحرب من دون الدعم المالي والعسكري الأميركي المباشر والمتواصل.
ـ تلويث صورتها وسمعتها في العالم، واندلاع هبّة شعبية عالمية شاملة ضدّها في شتى الدول والمجتمعات في القارات الخمس، ولا سيما في قلب الولايات المتحدة وفي صفوف أجيالها الشابة، والمناداة بتفكيك دولة «إسرائيل» وإعادة فلسطين حرّةً لأبناء شعبها.
ـ إحياء الدعوة إلى وحدة العرب وتضامنهم على طريق تحرير فلسطين.
ـ تعزيز احتمالات تغيير النظام الإقليمي في المنطقة مع تراجع نفوذ الولايات المتحدة وهيمنتها فيها.
في اختصار، أصبح بمقدور قوى المقاومة في فلسطين كما حليفاتها في دول الطوق العربيّة واليمن الترسمل والإفادة من ملحمة طوفان الأقصى وتداعياتها الإيجابية في وضع خطة متكاملة لتحرير فلسطين وعودة شعبها إليها، كما لابتداع نهج عملانيّ لتحرير بعض الأقطار العربية من الهيمنة الأميركية، وتسريع اتحاد بعضها الآخر على طريق تكوين قوة إقليمية فاعلة.

*نائب ووزير سابق.
[email protected]

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى