أولى

إسقاط «المساعدات» جواً يُسقط المصداقية

‭}‬ د. حسن أحمد حسن*
بعد إغراق غزة بما يزيد عن ستين ألف طن من القذائف والمتفجّرات التي تفوق بطاقتها التدميرية عدة قنابل نووية، وبعد تحويل كامل القطاع إلى أرض محروقة عبر قصف وحشي وحرب إبادة ما يزال جيش الكيان الإسرائيلي مستمراً بتنفيذ فصولها المتعاقبة منذ قرابة خمسة أشهر بمباركة ومشاركة أميركيتين، فجأة وبقدرة قادر تسارع إدارة بايدن للإعلان عن قيام طائرات الجيش الأميركي بإسقاط «38» ألف وجبة غذائية على قطاع غزة، فهل من تراجيديا في تاريخ الإنسانية تفوق مثل هذه المأساة التي يتمّ تسويقها كشاهد على النفحة الإنسانية في مملكة القتل والإرهاب والعربدة والإبادة الأميركية؟ وهل يمكن لمن يملك ذرة من عقل أن يقتنع بأنّ واشنطن عاجزة عن إدخال المساعدات الإنسانية؟ أم أنّ إمكانياتها تكون غير محدودة فقط عندما يتعلق الأمر بفتح مخازن الجيوش الأميركية ونصب الجسور الجوية لإمداد كيان الاحتلال بكلّ ما يلزم ومن دون طلب ليستمرّ المتوحّشون ومصاصو الدماء الصهاينة في تنفيذ حرب الإبادة الممنهجة ضدّ الوجود الفلسطيني بكلّ مظاهره، تمهيداً للقضاء على كلّ صوت يرتفع للحديث عن الجرائم غير المسبوقة والتي لم تشهد لها البشرية والإنسانية مثيلاً عبر تاريخها الطويل؟
كثيرة هي الاستفهامات الإنكاريّة التي يفرضها منطق العربدة الأميركيّة التي تستهزئ بعقول الناس جميعاً، ويحسب ممثلوها أنفسهم أنهم الأكثر مهارة وشطارة، والأكثر خبرة عمليّة في استخدام الزور والبهتان والكذب والنفاق لضمان إمكانيّة الاستمرار بتضليل الرأي العام الأميركي والعالمي الذي وصل حالة القرف من افتضاح السردية الصهيو ـــ أميركية التي فقدت كل مقوّمات المصداقيّة.
إثبات صحة قراءة كهذه لا يتطلب مهارات ذاتية، ولا قدرة استثنائية على التحليل الاستراتيجي الموضوعي، فبغضّ النظر عن أنّ حقائق الواقع تؤكد أنّ الحسَّ الإنساني مُسْتَأَصَلٌ جِينياً ممن يصلون إلى البيت الأبيض في واشنطن، ولنفترض جدلاً أنّ هذا الحسّ قد تحرك فجأة لدى بايدن وبقية المسؤولين الأميركيين، فعن أي مساعدات إنسانية إغاثية يتحدّثون؟ وكيف وماذا ومتى وهل وعشرات إشارات الاستفهام الأخرى التي تفرض على الكاتب التذكير بأساسيات لا يمكن إغفالها، ومنها:
*من جق كلّ من يعرف معنى الحسّ الإنساني أن يتساءل: ألم يكن بمقدور البنتاغون أن يرفع عدد الوجبات الغذائية التي تمّ إسقاطها إلى ستين ألف وجبة على أقلّ تقدير، لتكون كلّ وجبة مقابل ألف طن من القذائف والمتفجرات التي أرسلتها واشنطن لتل أبيب فقامت الأخيرة بقصف أهل غزة بمباركة أميركية تامة، وأدّى ذلك إلى إزهاق أرواح عشرت الآلاف من الأطفال والنساء باعتراف وزير الحرب الأميركي الذي أقرّ بتزويد حكومة نتنياهو بـ/21/ ألف قذيفة من أسلحة الدقة العالية منذ السابع من تشرين الأول 2023، وغنيّ عن القول إنّ الكيان بكليته قاعدة لأسلحة التدمير الشامل الأميركية، فكلّ ما قصف به قطاع غزة هو أميركي أو مصنَّع بمساعدة أميركية، أيّ أنّ الستين ألف طن من القذائف على غزة ممهورة بالخاتم الأميركي.
*قد تكون الطائرات الأميركية «سي ـــ 130» التي نفذت إسقاط «المساعدات على الغزاويّين هي نفسها التي نقلت صفقة قذائف مدفعية الميدان التي أعلن بلينكن أنه تمّت الموافقة على إرسالها إلى تل أبيب من دون العرض على الكونغرس نظراً لاقتراب نفادها من مستودعات الجيش الإسرائيلي، ولا يستقيم الأمر أن يكون من أرسل قذائف الموت والقتل لإبادة الفلسطينيين هو نفسه من يرسل مساعدات إنسانية، ويلقيها عبر الطائرات نفسها التي نقلت ما يمكّن حكومة نتنياهو من قتل عشرات الآلاف من الأطفال والنساء من دون أن يرفّ جفن للقتلة وداعميهم المجرمين.
*لا يزال يقطن في قطاع غزة قرابة مليوني شخص تمّ حشر قرابة مليون منهم في رفح التي يهدّد نتنياهو باجتياحها في أيّ وقت، وإذا سلمنا جدلاً أنّ كلّ ما تمّ إسقاطه وصل سليماً وأخذه الفلسطينيون، فهذا يعني أنّ /38/ ألف فلسطيني قد حصلوا على وجبة غذائية واحدة، وماذا عن بقية المليونين الذين يواجهون خطر الموت جوعاً؟ وبالتالي إذا كانت إدارة بايدن تتمسك بسؤال نتنياهو: ماذا عن خطة اليوم التالي، فالرأي العام العالمي يسأل هذه الإدارة: ماذا عن الوجبة التالية لـ 38 ألفاً الذين حصلوا على وجبة يوم السبت 12/3/2024م.؟ وماذا عن بقية الفلسطينيين الذين تبجّح وزير الحرب الإسرائيلي غالانت بأنه وحكومته مصمّمون على حرمانهم من الماء والغذاء والدواء والوقود وكلّ متطلبات البقاء على قيد الحياة منذ السابع من تشرين الأول من العام الماضي؟
*وكالة «رويترز» التي نشرت خبر إسقاط المساعدات الأميركية جواً على غزة أوضحت أنّ البيت الأبيض قال: (إنّ عمليات الإسقاط الجوي ستستمر وإنّ إسرائيل تدعم هذه المهام)، فإذا كانت «إسرائيل» تدعم تلك العمليات، فلماذا لا تدخل المساعدات الإغاثية من المعابر البرية؟ وما هو وجه الضرورة لتحمل النفقات الإضافية لإسقاطها من الجو؟
*لم تكن واشنطن بحاجة إلى أيّ جهد إضافي للتعبير عن يقظة الضمير لديها، واستفاقة الحسّ الإنساني في غفلة من الزمن جراء العجز المركب عن إنقاذ نتنياهو من شرور نفسه الإجراميّة، والعجز المشترك عن تحقيق أهداف الحرب المفروضة على غزة وفلسطين والمنطقة بل وعلى إنسانية الإنسان في العالم أجمع، ولو أنّ واشنطن امتنعت مجرد امتناع عن استخدام حق النقض «الفيتو» في مجلس الأمن لكان وقف إطلاق النار تبلور وتمّ فرضه على حكام تل أبيب.
*لا يُخفى على متابع مدقق خبث الهدف الكامن وراء الترويج لإسقاط المساعدات من الجو. وهنا نخرج من جبروت الطاقة التدميرية العسكرية إلى الأفق المفتوح من «الحرب على الوعي» والعمل على كيّه بشتى السبل الممكنة. فهذا الواقع الذي تمّ الترويج له يعني وبالخط العريض أنّ كيان الاحتلال أقوى من أميركا ومن جميع دول العالم، وبالتالي على المقاومة الفلسطينيّة وبقية أطراف محور المقاومة الخوف وردع الذات. فأميركا بجبروتها لم تستطع إدخال ربطة خبز واضطرّت لإلقائها من الجو بموافقة الجانب الإسرائيلي، فماذا إذن؟
على أولئك أن يتيقنوا أنّ كل ما يخطّطون له مكشوف ومفضوح، ولن يفلحوا في هذا المسعى الخسيس والخطير قط، ولا شك في أنّ الصورة التي ترد من ميادين المواجهة محمّلة بعبق البارود والنار هي الأصدق، وهي التي تقول مَن هو المأزوم والمهزوم. بغضّ النظر عن حجم الضحايا والخسائر البشرية الكبيرة والمؤلمة، وهي ضريبة حتميّة لاستعادة ما اغتصب من أرض وحقوق وكرامة وسيادة، ولا حريّة تعلو على حرية الإرادة.
*من المهمّ التمييز بين الحاجة لسدّ الرمق لدى غالبية الفلسطينيين المحكوم عليهم «إسرائيلياً» بالإعدام جوعاً أو قصفاً وبين التطبيل لإنسانية منتفاة من اهتمامات مفاصل العمل في الإدارات الأميركية المتعاقبة ديمقراطية كانت أم جمهورية. فالعرض المسرحيّ المقزّز الذي تتباهى به وسائل الإعلام الدائرة في الفلك الصهيو ــ أميركي لا يستطيع إقناع طفل لم يبلغ الثامنة من عمره بأنّ الدول التي تسيطر على المعابر باتجاه فلسطين من الشرق أو الغرب لا تملك خيارات أخرى أكثر جدوى للتخفيف ـــ ليس من وجع الفلسطينيين وآلامهم ـــ بل لتقليل سرعة عداد الموت وفرض ما يحول بين منجل القتل والإبادة الإسرائيلية وبين رقاب عشرات الآلاف من الأطفال والنساء والعجزة والمرضى من أبناء الشعب الفلسطينيّ الذي لم يقترف جريمة سوى جريمة التمسك بحقه في الحياة كبقية خلق الله على هذه الأرض.
*النسخة التجريبيّة من إسقاط «مساعدات» من الجو التي أوكل تنفيذها لبعض دول المنطقة، يبدو أنها راقت لإدارة بايدن فقرّرت الخوض مع الخائضين، وأعلنت وزارة الدفاع الأميركية مشاركتها بإلقاء فتات المساعدات على مئات الآلاف من المهجّرين الفلسطينيين الذين ينتظرون الموت إما عبر صواريخ القتل والإبادة وأسلحة التدمير الشمال التي لم يتأخر شحنها ووصولها من المخازن الأميركيّة إلى القواعد العسكرية الإسرائيلية، وإما جوعاً ومرضاً بعد تدمير ممنهج للقطاع الصحيّ بغالبيّته العظمى، وسدّ المنافذ والمعابر عن دخول أي مساعدات إنسانية إلا بما يُرضي نزعة القتل والسكر بدماء الأبرياء، وهذه النزعة مسيطرة ومتأصلة لدى نتنياهو وزمرته العنصرية الحاكمة في كيان الاحتلال.
خلاصة
يُخطئ من يتوهّم أنه يمكن استثمار مثل هذه الصورة المركبة بعناية في الحملة الانتخابية لبايدن نظراً لتعثرها قبل انطلاقتها. فالوحشية والإجرام ونزعة القتل والتدمير والإبادة الجماعيّة تبقى مصبوغة بدماء الأطفال والنساء طالما مقصلة قطع الرقاب مستمرّة بالعمل بوتائر تفوق القدرة على تخفيف التوحش والإجرام. ولن تفلح إدارة بايدن في تلميع صورتها المكروهة إنسانياً، ولو كتبت على القماش المصنوع في العالم كله عبارة (مساعدات إغاثية إنسانية). فالرأي العام العالمي اليوم، بما فيه الأميركي على يقين بأنّ الإدارة الأميركية ليست فقط داعمة لتل أبيب في الحرب على غزة، بل هي شريك فعلي وتتحمّل كامل المسؤولية عن كلّ قطرة دم، وعن إزهاق كلّ روح فلسطينية ارتقت إلى باريها بفعل التوحش الصهيو ــ أميركي المنفلت من كلّ عقال، وكلما ازدادت الوحشية المتعمّدة آذن صمود الشعب الفلسطيني وبقية أقطاب محور المقاومة باقتراب انبلاج فجر جديد لنصر حتمي نهائي ناجز وقريب، إن شاء الله.
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى