نقاط على الحروف

التأقلم مع حرب استنزاف طويلة

ناصر قنديل
– عندما دخلت المنطقة في أجواء 7 (أكتوبر) تشرين الأول من العام الماضي، لم يكن أحد يتوقع حرباً تمتدّ لخمسة شهور وتزيد. فقد كان التوقع الأعلى أن يُقدم الإسرائيلي على اختبار الحرب البرية ويكتفي بـ الإشارات السلبية التي تثبت العجز عن تحقيق الأهداف والتسبب بفتح جبهات عديدة يعجز الأميركي عن إغلاقها، للبحث عن مخرج تفاوضي ينتج خروجاً بأقل الخسائر من الحرب أسوة بالهدنة التي تم التوصل إليها نهاية (نوفمبر) شهر تشرين الثاني من العام الماضي. ومع نهاية الهدنة والعودة الى ميادين الحرب وما سُمّي بالمرحلة الثانية، كانت التقديرات السائدة تقول بأن حجم ما أصاب جيش الاحتلال من تهالك في ألوية النخبة ومشاكل الذخيرة والروح القتالية واستعصاء السيطرة على جبهات الإسناد في لبنان واليمن والعراق، سوف يدفع الأميركي والإسرائيلي لوضع أولوية الخروج من الحرب على المضي بها قدماً. لكن ذلك لم يحدث واستمرّت الحرب أميركياً وإسرائيلياً، رغم تفاوت النظرة إليها بين واشنطن وتل أبيب في كثير من العناوين، لكن على قاعدة المصير المشترك والقرار المشترك بأن الذهاب إلى إنهاء الحرب خط أحمر.
– مفاجآت كثيرة حملتها شهور الحرب غيّرت ويجب أن تغيّر الكثير من المفاهيم، أولها أن الحديث عن حتمية القدرة على تجييش الرأي العام الغربي لصالح حروب كيان الاحتلال كواحدة من ثوابت قراءة أي ظروف محيطة بحرب مع كيان الاحتلال قد سقطت، وأن الحديث عن التفوق الناري لجيش الاحتلال الذي كان من ثوابت الحروب العربية الإسرائيلية قد أسقطته صورة جبهة المواجهة التي فتحها حزب الله من جنوب لبنان، والحديث عن وجود سقف للقدرة الأميركية على تغطية جرائم الإبادة الإسرائيلية، خصوصاً مع شارع متحرّك ضدها، ثبت أنه غير صحيح. وبالمثل ثبت أن عدم تحمّل جيش الاحتلال والكيان لحرب طويلة تتخطّى الثلاثة شهور قد سقط أيضاً، رغم الخسائر والتداعيات القاسية للحرب على الجيش والتجمّع الاستيطاني، وثبت أيضاً أن معادلة نقص الذخائر على ضفة المقاومة وفائض فيها على ضفة جيش الاحتلال تحتاج إلى تدقيق، لكن ثبت أيضاً أن حجم قدرة الشعب الفلسطيني في غزة خصوصاً على التحمل والصبر والاستعداد للتضحية دون الاستعداد للتخلّي عن الثوابت الوطنية والمقاومة معجزة أسطوريّة تفوق الخيال، لكن ظهر أيضاً أن حجم البلادة والخذلان لدى الحكومات العربية والشارع العربي في التفاعل مع المأساة الفلسطينية يفوق الخيال أيضاً.
– المعادلة الآن هي ببساطة معادلة جديدة لم تكن قابلة للتوقع، هناك أقليّة عربية تقاتل بوجه كيان الاحتلال، لكنها أقليّة صلبة مدعومة من بيئات شعبية مستعدّة للذهاب معها إلى النهاية نصراً أو شهادة، خصوصاً في غزة وجنوب لبنان واليمن. وأن هذه الأقليّة تحظى بدعم مطلق من إيران وتضامن وشراكة في سورية والعراق يتيح جعل الجغرافيا السورية والعراقية مساحات اشتباك مع الأميركي والإسرائيلي، وأن هذه الأقلية الصلبة وما خلفها ومن خلفها، قادرة على إنتاج توازن قوى متجدّد يجعل تحقيق أي إنجاز أميركي أو إسرائيلي مستحيلاً، مهما تغيّرت أساليب الحرب ومهما طالت مدتها. وبالمقابل فإن أميركا محكومة بمعادلة العجز عن تحمل هزيمة إسرائيلية عسكرية أو هزيمة سياسية بموجب اتفاق يكرّس الهزيمة، مهما تباينت المقاربات بينها وبين القيادة الإسرائيلية على إدارة الحرب، وإن في كيان الاحتلال غالبية راجحة في الرأي العام والجيش والقيادات السياسية مستعدة للمضي قدماً بخيار الحرب، رغم التفكك السياسي العالي الوتيرة، والاشتباك الثقافي المتعدد الوجوه، على قاعدة أن الهزيمة هذه المرّة هزيمة وجودية وغير قابلة للاحتواء، وأن الحرب بدأت في الأراضي المحتلة عام 1948 في غلاف غزة، وأنها تستمرّ في الأراضي المحتلة عام 1948 في شمال فلسطين المحتلة.
– واقعياً لا أحد على طرفي الحرب يملك القدرة أو يملك التفويض للذهاب إلى التسليم بشروط يقبلها الطرف المقابل لوقف الحرب، رغم الرغبة المتبادلة للتوصل الى صيغة توقف الحرب، ورغم التعب والإرهاق والإنهاك والشعور بقسوة الخسائر والتضحيات، لكن إيجاد منطقة وسط يلتقي عليها الطرفان المتحاربان بصيغة رابح رابح يبدو مستحيلاً، ويزداد استحالة كل يوم. ومن خلال مراقبة الأداء الحربي على الضفتين المتقابلتين يبدو أنهما قد توصّلا الى استنتاج أنه لا بد من التأقلم مع حرب استنزاف طويلة، بمعزل عن اتجاه المسارات الراهنة التكتيكية. وهناك في التداول الآن حديث عن معركة رفح وحديث موازٍ عن هدنة من نوع خاص محصورة بتبادل المسنين والمرضى والنساء والأطفال من الأسرى، لكن السؤال هو ماذا بعد؟ حيث إن معركة رفح التي يؤيدها 74% من الإسرائيليين لن تختلف عن سابقاتها حيث تتواصل البنية القتالية الفلسطينية بشبكة أنفاق لم تتأثر، وحيث مستلزمات المواجهة من البشر والسلاح والذخائر بالنسبة للمقاومة قابلة لخوض حرب سنوات وليس شهوراً أو أسابيع. أما الهدنة فماذا بعدها أيضاً، وعندما تنتهي مدتها لن يكون ممكناً تجديدها دون العودة الى الشروط الأصلية المختلف حولها، من وقف الحرب وانسحاب جيش الاحتلال من غزة وفك الحصار وصولاً إلى خطة إعادة الإعمار.
– تحت سقف عدم الرغبة بالذهاب إلى حرب كبرى، سوف يستمرّ التصعيد في حرب استنزاف مفتوحة، سواء تخللتها هدنة أو أكثر، أو شهدت معركة كبرى أو أكثر، فهذه واحدة من الحروب التي لا تقف، ليس لأن هناك خطة استثمار على مواصلتها، بل لأن لا قدرة على إيجاد خطة لوقفها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى