أولى

زيارة وزير الدفاع السوري إلى طهران: التوقيت والدلالات

‭}‬ د. حسن أحمد حسن*
لم يعُد مجدياً الحديث عن أيّ جديد في المنطقة بشكل منعزل ومستقلّ عن بقية القضايا المتشابكة والمتداخلة إلى درجة الاستعصاء المزمن الذي يقترب أكثر فأكثر من الذروة، ولا مصلحة لأحد في تدحرج كرة اللهب وتوسيع دائرة الصراع الذي لا يزال حتى اللحظة يبدو وكأنه مضبوط الإيقاع، وإذا كانت منطقة الشرق الأوسط تشكّل في المخزون المعرفي الجيوبولتيكي الغربي جزءاً من قلب العالم «الهارت لاند» فقد أصبح من المسلّم به لدى ذاك الغرب استحالة الاستفراد بهذا القلب لتوسيع السيطرة الكونيّة، لأنّ المحور الذي تشكّل منذ عقود في مواجهة الغطرسة الصهيو ــ أميركية يحمل وبجدارة اسم المحور المقاوم، وهو يمتلك العديد من أوراق القوة والفاعليّة الكفيلة بتآكل في النفوذ الأميركي لا يمكن تجاهله، وإنْ كان هذا التآكل لا يزال تدريجياً وبوتائر سرعة تتفاوت شدتها من محطة إلى أخرى، وهذا يجعل من أيّ لقاء أو تنسيق وتعاون سوري ــــ إيراني مصدر إزعاج لأعداء المنطقة وأعداء شعوبها ودولها، لأنه يعني بشكل مباشر خطوة جديدة على طريق تداعي ما تبقى من حلقات المشروع الصهيو ـــ أميركي القائم على التشظية والتقسيم ومصادرة إرادة الجميع، لكنه في كل مرة يُصاب بإحباط جديد أكبر مما كان معروفاً في السابق، فاللقاء السوري ــ الإيراني وبخاصة إذا كان ببزات عسكرية يعني اللقاء بين واسطة عقد المقاومة سورية وبين إيران الثورة الإسلامية التي تضطلع بدور القلب الذي يضخ الدماء والقدرات التي تتدفق في شرايين بقية أطراف محور المقاومة. وهذا يعني التقدّم بخطى واثقة ومدروسة موضوعياً لإرغام أصحاب الرؤوس الحامية على إعادة الحسابات، والنظر إلى الظلّ الذي يشكله كلّ منهم في الظهيرة لا عند الشروق ولا عند الغروب. فالشروق الذي كان بعضهم يتغنّى بفرضه على البشريّة جمعاء غدا وراء الظهر منذ زمن ليس بقليل، وفي حالة الغروب لن يستطيع أولئك رؤية امتداد الظلّ لأن بينهم وبينه محور أثبت أن قادر على تحمّل تداعيات الوقوف برجولة، والدفاع بثبات ويقين يُشْتَّقُ منهما عجزُ أنصار القوة عن هزيمة أنصار الحق، وشتان بين طرفي المعادلة التي غاب عنها التوازن لعقود وقرون، إلى أن أثبت المحور المقاوم أنه لم يعُد فتياً وطرياً، بل غدا لاعباً حاضراً في كل الساحات، وهو يتمتع بكل مقومات الرجولة والحكمة الكفيلتين بتجنيبه شرّ المخاطر والتهديدات، ما ظهر منها وما بطن واستتر.
من هنا تكتسب زيارة السيد العماد علي محود عباس وزير الدفاع السوري والوفد المرافق إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية أهمية خاصة إضافية من حيث التوقيت والدلالة، وما قد يترتب عليها من نتائج مباشرة وغير مباشرة في لحظة تاريخية حاسمة من غير المسموح فيها تمرير أخطاء في الحسابات، لأن أي خطأ وإنْ كان غير مقصود قد يؤدي إلى اشتعال فتيل الصاعق المفجر، وهذا ما لا يستطيع أي طرف كان تحمّل مسؤوليته، لأنّ التكلفة تفوق طاقة الأطراف كلها على الجانبين، الأمر الذي يفرض على الجميع إعادة قراءة اللوحة التي لا تزال قيد التشكل والتبلور، ويمكن هنا الإشارة إلى عدد من النقاط التي قد تساعد على توضيح بعض الجوانب التي لا يجوز إغفالها، ومنها:
*المنطقة بكليتها تعيش حالة من الاضطراب وعدم الاستقرار جراء الوحشية الإسرائيلية المنفلتة من أي عقال بتأييد أميركي مطلق، ولا يقلّ وحشية وعدوانية عن الإجرام الإسرائيلي، لا بل بسببه يستطيع نتنياهو وحكومته المتطرفة خلق حالة من الاضطراب وعدم الاستقرار في كامل المنطقة، ولعلّ هذا ما أشار إليه وزير الدفاع الإيراني السيد العميد محمد رضا آشتياني عند استقباله لنظيره السوري وفق ما نقل عن العلاقات العامة بوزارة الدفاع الإيرانية، حيث قال: (إنّ التطورات الإقليمية وأهمية العلاقات بين البلدين تتطلب من الجانبين التشاور بشكل مستمرّ)، وهذا ما أكد عليه العماد علي عباس في أثناء استقباله من قبل رئيس الأركان الإيراني السيد اللواء محمد باقري بقوله: (… بعد عملية طوفان الأقصى، تغيّر العالم، وأصبح من الضروري زيادة التواصل والتعاون بين القوات المسلّحة الإيرانية والسورية في جميع الأمور والمجالات باعتبارهما محوري المقاومة).
*رفع سقف الخطاب الإيراني بخصوص تكرار الاعتداءات التي يشنها الكيان الصهيوني ضد الدولة السورية بذريعة مواجهة محور المقاومة، في حين أنّ الواقع يثبت بأنّ هذه الاعتداءات تستهدف تدمير البنى التحتية مثل المطارات والموانئ وكذلك قوافل الوقود والغذاء، وهذا يدلّ على هلع الكيان الصهيوني وفشله، وفق ما قاله وزير الدفاع الإيراني مؤكداً أنّ (النقطة المهمة والاستراتيجية في التصدّي لهجمات الكيان الصهيوني الوقح هي خلق الردع، لذا فإنّ الإجراءات والخطط الضرورية والعاجلة لمنع غطرسة هذا الكيان مدرجة على جدول الأعمال)، وأضاف: إنّ وزارة الدفاع الإيرانية الآن (مستعدة لاستخدام كافة قدراتها وصلاحياتها للوقوف إلى جانب الحكومة، للنهوض بمستوى القدرات الدفاعية والردعية لسورية) مشدّداً على: (ضرورة تعزيز ودعم القدرات الدفاعية السورية وتنفيذ الاتفاقيات الثنائية).
*من جانبه أوضح السيد العماد علي عباس أنه (عندما فشل الكيان الصهيوني القاتل للأطفال في تحقيق أهدافه في غزة، وبذريعة دعم محور المقاومة والجمهورية الإسلامية الإيرانية للشعب الفلسطيني المظلوم، زاد من التوتر في المنطقة، بما في ذلك في سورية ولبنان) وأضاف: («إنّ المقاومة والصمود وزيادة القدرات الدفاعية وتعزيز التعاون الثنائي هي أفضل السبل لردع الأعداء. وهذا ما ضاعف الحاجة إلى التعاون والتضامن بين البلدين ضدّ الأعداء»).
*نقطة أخرى مهمة تناولها وزير الدفاع السوري في لقائه مع نظيره الإيراني تتعلق بمسارعة الولايات المتحدة للحضور المباشر بعد ملحمة طوفان الأقصى، مشدّداً على أن دعم أميركا للكيان الصهيوني يعود إلى الخوف من إسقاط هذا الكيان وقال: (أدركت أميركا مدى ضعف أسس هذا الكيان بعد بدء الحرب مباشرة).
*تأكيد الجانبين السوري والإيراني على أهميّة تعزيز التعاون الثنائي، واستمرار التشاور والتنسيق بين مسؤولي البلدين على مختلف المستويات، حيث شدّد رئيس الأركان الإيراني على: (الحاجة الملحة والماسة لمزيدٍ من تبادل الآراء والزيارات بين البلدين). وبدوره أشاد وزير الدفاع السوري بالعلاقات المتينة التي تربط الجيشين الصديقين بالقول: (لقد حدثت العام الماضي تطوّرات كبيرة في العلاقات بين القوات المسلحة للبلدين، وقد أنجزنا العديد من الأمور من خلال التعاون والتفاهم المتبادل، ونأمل أن يكون لدينا المزيد من التقدّم في جميع الأمور هذا العام أيضاً).
*إعادة تأكيد الجانبين على أنّ الوجود الأميركي على الجغرافيا السورية غير شرعيّ، بل إنه يشكل قاعدة لدعم الجماعات الانفصالية والإرهابية، وهو سبب عدم الاستقرار وانعدام الأمن في المنطقة، كما ربط الجانبان الإجرام الإسرائيلي بالدعم والمشاركة الأميركية وتعطيل مجلس الأمن والأمم المتحدة عن القيام بالمسؤولية تجاه الجرائم المستمرة والمتزايدة.
باختصار شديد يمكن القول: إنّ توقيت الزيارة في هذا الظرف الذي تعيشه المنطقة وهي بحالة من الترقب والحذر يجعل من الزيارة تتجاوز الإطار الروتيني للزيارات المتبادلة. فجميع السيناريوات حاضرة ومفتوحة على الطاولة، فلا الحضور الأميركي الغربي عسكرياً استطاع أن يخفف من ارتدادات ملحمة طوفان الأقصى، ولا الوحشية الإسرائيلية الأميركية المفرطة في القتل والتدمير وحرب الإبادة والتجويع استطاعت أن تصادر إرادة الشعب الفلسطيني المحتضن لمقاومته، وهناك متبدّل جيوبوليتكي فرض ذاته على الجميع تمثل بدخول اليمن على خط المواجهة المباشرة والمفتوحة. وهذا المتغيّر لم يكن ضمن حسابات محور العدوان قط، وكل من يصطف تحت العباءة الأميركية ملزم بالتعامل مع المتغيّر اليمني بواقعية تحذف من الحسابات تلك العنتريات التي مضى زمانها وإلى غير رجعة، وليس بإمكان أحد أن ينكر أهمية ترابط ساحات المواجهة لدى أطراف محور المقاومة وتكامل أداء الجبهات المساندة مع الجبهة الرئيسية التي ولدها طوفان الأقصى، والصورة العامة المتبلورة حتى اللحظة تدلّ على رجحان الكفة لصالح المحور المقاوم بغضّ النظر عن حجم الخسائر الكبيرة البشرية والمادية. وهي ضريبة حتمية مطلوب دفعها للحفاظ على الكرامة واستقلالية القرار الوطني لأيّ دولة تحترم نفسها في العالم.
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى