أولى

غزة في الميزان الأميركي

‭}‬ بشارة مرهج*
في الوقت الذي تتصدّى فيه الولايات المتحدة للقرار الأممي باعتبار فلسطين دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة يقوم الكونغرس الأميركي بإغداق الأموال الضخمة على «إسرائيل» دعماً لحربها الإجرامية على غزة وفلسطين. وتشمل الاعتمادات المخصصة لـ «إسرائيل» مبلغ 13 مليار دولار للأمور العسكرية، كما تستفيد تل أبيب من مليارات أخرى تحت عنوان مساعدات اجتماعية وإنسانية بحيث يصبح المبلغ الإجمالي 26 مليار دولار.
إنّ هذا القرار معطوفاً على الفيتو الأميركي المعادي لفلسطين الذي شهده مجلس الأمن يعكس حقائق خطيرة لا بدّ من التوقف عندها:
أولاً: تقول واشنطن لحلفائها العرب من خلال هذين القرارين إنه لا مجال للمراهنة على تغيير مواقفها الاستراتيجية بدعم التفوق «الإسرائيلي» على العرب مجتمعين، حيث على جميع الأنظمة العربية اتباع تل أبيب وطأطأة الرأس لقراراتها مهما توغلت في دماء الشعب الفلسطيني ومهما خرجت هذه القرارات عن القوانين الدولية والاعتبارات الإنسانية.
ثانياً: إنّ واشنطن تشارك في الحرب على غزة من خلال دعم تل أبيب بالسياسة والمال والسلاح والتكنولوجيا والضباط والجنود الأميركيين الذين يعملون جنباً الى جنب مع زملائهم «الإسرائيليين» في غرف العمليات أو ميادين المعركة. فهذه حقيقة لا تخجل بها واشنطن وإنما تعلنها على رأس السطح منذ تأسيس الكيان الغاصب. وكلّ ذلك يعكس وحدة الحال بين واشنطن وتل أبيب، حيث يشترك الطرفان في محاولة إلحاق الهزيمة بغزة وتحقيق انتصار لكليهما مهما بلغت كلفته عليهما.
ثالثاً: إنّ واشنطن التي تغلي جراء الأزمات المالية والانقسامات الاجتماعية والتوترات العرقية والتي تحاول معالجتها بالسطو والعقوبات والعدوان تعرف أكثر من غيرها أنّ قدرتها على الإنفاق العسكري باتت مهدّدة فعلاً بعد بلوغ دينها العام 34 تريليون دولار.
فالأميركي العادي الذي تتراكم عليه الديون، يسأل اليوم من خلال الاجتماعات والاحتجاجات المتواصلة التي تشهدها الجامعات والشوارع والأسواق، كما من خلال معارضة عشرات النواب في الكونغرس لقرار مساعدة أوكرانيا و»إسرائيل» وتايوان، يسأل كيف لنا أن ننفق هذا الإنفاق الهائل من خزينة خاوية ومدينة؟ وكيف سيكون تأثير هذا الإنفاق الهائل على قيمة الدولار ومستوى الأسعار والفوائد والأجور والرواتب وأقساط المدارس والجامعات؟
إنّ تأثير هذه القرارات وسواها التي تتخذ تحت لافتة الضرورات الانتخابية أو المستجدات الضرورية لن يكون بالإمكان تفاديها حتى بالإجراءات الزجرية التي تتخذها واشنطن ضدّ بكين وموسكو وطهران وعواصم كثيرة حيث لهذه الإجراءات العدوانية ارتدادات خطيرة على حركة الاقتصاد العالمي وحرية التجارة العالمية وسلاسل التوريد، وكلها ترتيبات ومعاهدات سابقة تستفيد منها الولايات المتحدة لمركزة رأسمال العالمي لديها وتحقيق أرباح مباشرة في حين أنّ التلاعب بها وانتقائها على القطعة يؤدّي إلى خسارات استراتيجية تتخوّف منها فئات أميركية عديدة باستثناء تلك المؤيدة لـ «إسرائيل» والليبرالية المتوحشة فضلاً عن المضللين.
رابعاً: إنّ واشنطن التي تستشعر المخاطر المستقبلية المترتبة على سياستها الحالية تريد تحقيق انتصارات مباشرة على الصعيد العالمي حفاظاً على سطوتها ونفوذها، ولذلك هي تسعى لاحتواء الصين وكسر هيبة روسيا والبطش بغزة لأنها تعرف تماماً انّ إطالة أمد المعركة على الجبهات الثلاث سيكون مكلفاً جداً لها وربما مزعزعاً لمكانتها واقتصادها وأوضاعها الداخلية المضطربة سياسياً واجتماعياً وأخلاقياً.
لكلّ ذلك ينبغي على الأنظمة العربية أن تُعيد النظر في علاقاتها مع واشنطن التي تشهد ضعفاً لا تُخفيه عراضات الأساطيل وهجمات الطيران الحربي والتهديدات العسكرية والضغوط الاقتصادية.
إنّ إعادة النظر هذه ضرورية حتى لا تجد هذه الأنظمة نفسها في قبضة «إسرائيل» كلياً، عاجزة عن الحراك والمناورة كما يحصل لعدد من الأنظمة التي تزيد من تصريحاتها الفارغة لتغطية مواقفها المتخاذلة. ثم ماذا لو صمدت غزة وصمد المحور الروسي الصيني الإيراني وتراجع فعلاً الموقف الأميركي الذي يتحايل على الاقتصاد العالمي ويدعم حلفاءه من أموال المجتمع الأميركي او المجتمع الدولي الذي يستدين منهما دون وجود قدرة على تسديد الفوائد فضلاً عن الأصول.
إنّ كلّ الإمبراطوريات التي توسّعت في التاريخ – كما يقول بول كينيدي – تدخل حكماً بعد فترة من الزمن في حلقة مفرغة. فهي بحاجة الى مزيد من الإنفاق العسكري لحماية توسّعها، وكلما توسّعت تحتاج الى مال أكثر لا تستطيع الحصول عليه إلا عبر الاستدانة. وكلما استدانت ارتبك اقتصادها وتراجعت قوتها الداخلية وتقدّمت خطوة على طريق الانهيار. ولنا في هذا الصدد الكثير من الأمثال عن انهيار الإمبراطوريات باستثناء الإمبراطورية البريطانية التي تراجعت وتكوّرت تحت جناح السلطان الأميركي بقرار ذاتي بعد أن أدركت حقيقة الموقف في نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعد أن تركت ألغامها الخبيثة في بلادنا وكلّ البلاد التي استعمرتها وترتبط معها اليوم برابطة الكومنولث التي لا تستر وجه الإمبراطورية القبيح.
*نائب ووزير سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى