أولى

نفاق بلا حدود…

‭}‬ سعادة مصطفى أرشيد
مع مرور الوقت تتواصل نتائج حرب تشرين الثانية (طوفان الأقصى)، ومنها ما ساهم في توسيع مدى الرؤية لدينا أو أنها جعلتنا نستطيع أن نرى أموراً جرت في السابق بعين جديدة ذات نظرة أكثر حدّة ودقة ووضوح، منها رؤيتنا للاستعمار وللعهر الغربيّ الذي لا يوجد له حد أو نهاية، أو رؤيتنا لنتائجه سواء في إقامة الكيان العنصري الغاصب الغريب الذي لا يوجد حدّ أو نهاية لمدى توحّشه ودمويّته، أو في رؤيتنا للأنظمة التي صنعها الاستعمار والتي تحكمنا أو تحكم بعضاً منّا، بخاصة ذات الدور الوظيفي غير القومي أو حتى غير الوطني بمفهومه الضيّق، والتي لم يعُد لديها ما يستر عوراتها أو ما يمكن أن تزعمه من شرعيّة الدفاع عن مصالح عامة لشعوبها.
في الغرب عموماً، وفي الولايات المتحدة خصوصاً، لم يأتِ الطلبة المتظاهرون في باحات تلك الجامعات من جامعة بيرزيت القريبة من رام الله أو جامعة النجاح في نابلس أو أي جامعة فلسطينية، وإنما هم طلبة جامعات أميركيّة شقر الشعور، زرق العيون، ومن ذوي البشرة البيضاء الذين تعود أصولهم إلى إيرلندا وألمانيا وإنجلترا. يتظاهر هؤلاء احتجاجاً على العدوان الذي تشارك به بلادهم دولة الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني، ويتظاهرون ضد إدارات جامعاتهم التي تمثل عنصراً رئيسياً من عناصر الدولة العميقة والتي تستثمر أموال صناديق وقفيّاتها في شركات الأسلحة والشركات الداعمة لدولة الاحتلال، بل إنّ بعضها يستثمر في المستوطنات المقامة في أراضي الضفة الغربية التي يعتبرها الطلاب أنها فقط الجزء المحتلّ من فلسطين، ومع ذلك يتعرّض هؤلاء الطلاب للقمع بأبشع الأشكال التي لم تتكرّر منذ مظاهراتهم المعارضة في ستينيات القرن الماضي لحرب بلادهم الظالمة ضد الشعب الفيتنامي، وحتى مَن ينظم هذه الاحتجاجات يحتاج للبحث عن مشاركين يهود ولو بالأجرة لتحصل احتجاجاتُهم على شيء من المشروعيّة الأخلاقيّة وفق سلم معايير القيم المعمول به في بلادهم وإلا أصبحوا من المعادين للساميّة.
المتحدّث باسم الخارجية الأميركية يردّ على سؤال: لماذا أقمتم الدنيا ولم تقعدوها ضدّ روسيا إثر عمليّتها العسكرية في أوكرانيا وطالبتم بمحاكمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باعتباره مجرم حرب فيما تحتجون على الشكوى ضدّ (إسرائيل) التي تمارس جرائم الإبادة الجماعيّة أمام أعين الملايين الذين تنقل لهم الفضائيات الجرائم بالصوت والصورة والدمّ الحار واللحم الحيّ. وكان جوابه المختصر أن (إسرائيل) شيء مختلف وأن محكمة لاهاي أو محكمة الجنايات الدوليّة ليست محاكم ذوات اختصاص.
وفي جلسة استجواب عقدها الكونغرس لرئيسة جامعة كولومبيا التي لم يشفع لها موقفها السلبي المعادي للاحتجاجات، ربما لأنها من أصول شرقية (مصرية) ليتم سؤالها إن كانت تعلم بميثاق الرب مع إبراهيم حول مباركة (إسرائيل) وإن مباركة (إسرائيل) هي الطريق لمباركة الرب وإن عدم مباركتها أمر يؤدي إلى إغضابه وحلول لعناته وإن من وظيفة رئيسة الجامعة العمل على أن لا تكون تلك الجامعة ملعونة بإرادة ربانية.
في تل أبيب لا تشير الأجواء إلى أن لهذه الحرب نهاية قريبة (فالإسرائيلي) غير قادر على الانتصار أولاً وهو لم يُشفِ غليله بعد قتل قرابة 35 ألف شهيد فلسطيني حتى اليوم، وجرح قرابة المئة ألف معظمهم من المدنيين والأطفال والنساء. ولا يبدو أنه سيشفي غليله إلا إن تمكن – ولن يتمكّن من إبادة الشعب الفلسطيني، ثم أنه لا توجد لديه خلافات داخلية حول الاستمرار في الحرب، وما الخلافات الا حول تفاصيلها وحول مقدار كفاءة وصلاحية الحكومة الحالية على قيادتها، ولا خلاف حول معركة رفح لا في الداخل (الإسرائيلي) ولا مع الحليف الأميركي، وإنما الخلاف هو حول خطط تنفيذها وعدد قتلاها. وأكثر من ذلك فإن الحرب في طريقها ولا بد للاتساع خاصة على جبهتين: الأولى جبهة لبنان مع المقاومة اللبنانية التي تمثل أرقاً وصداعاً دائماً لدولة الاحتلال، والثانية في العودة لتنفيذ مشروع الحكومة الحالية في الضفة الغربيّة والمقبل بمصادرة القسم الأكبر من الأرض وتهجير السكان وهو المشروع الذي تأجل العمل به بسبب حرب تشرين الثانية.
في عالمنا العربي تتعجّل الدول الوظيفية صديقيها (الإسرائيلي) والأميركي ليحسما المعركة، وذلك للسير في مشاريع التطبيع والخلاص من الصداع الذي تسبّبه المسألة الفلسطينية ولحل بعض نتائج سياسات الفساد التي صنعها حكامها، كما تشارك دول عديدة من عندنا لصياغة مبادرات لإنهاء الحرب تتّسم بالخبث والمكر الذي لم يعُد ينطلي على قيادة المقاومة الحاليّة والتي لن تؤدي إلى وقف الحرب بموجب تلك المبادرات المسمومة.
إنها طريق ذات اتجاه واحد، طبيعة الصراع ونوع العدو لا يتركان لنا خيارات. صحيح أن آلامنا مبرحة وخسائرنا كبيرة، ولكن ليس أمامنا إلا الاستمرار حتى النهاية أي حتى النصر.

*سياسي فلسطيني مقيم في الكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى