أولى

الحرب إذ تأخذ شكلاً آخر

‭}‬ سعادة مصطفى ارشيد*
في الأيام الأولى للحرب توقع وزير الخارجية الأميركي أن الحرب قد تكون طويلة وأنها قد تستمر لثلاثة أسابيع تحتاجها «إسرائيل» لسحق المقاومة سحقاً تاماً، ولكن مع تقدم الزمن وظهور العجز الإسرائيلي الأميركي عن تحقيق هذا الهدف أو حتى الاقتراب من تحقيقه ونحن اضطرت واشنطن لإطلاق صفارتي سباق تفاوضيّ في محاولة منها لإنفاذ «إسرائيل» من نفسها.
هكذا دارت مفاوضات للوصول إلى هدنة أو تهدئة، ولكنها كانت تدور خارج محورها الحقيقي فالأميركي يريد أن يحقق بالمفاوضات وعبر الوسطاء العاملين لديه من المكاسب ما عجز عن تحقيقه بقوة البارود والتكنولوجيا وذلك على ثلاث جبهات الأولى حرب القتل والتدمير والترويع والتجويع والهدم، والثانية المفاوضات التي تحقق لـ»إسرائيل» نصراً، والثالثة الضغط الذي تمارسه دول عربية من خلال وساطتها المسمومة او من خلال عدائها السافر للمقاومة.
عبرت جولات التفاوض عن رغبة واشنطن والوسطاء في الوصول الى حلول ولو كانت مؤقتة، وعلى راسها ما يؤدي الى اطلاق سراح الأسرى الذين اصطادتهم المقاومة في صبيحة السابع من تشرين الأول، ولتستمرّ الحرب بعدها، ولكن هذه المفاوضات كانت بعيدة عن رغبات ورؤى طرفي الحرب. فالحكومة (الإسرائيلية) ترى أنها حرب الاستقلال الثانية وهي ذات بعد وجودي استراتيجي يجعلها تحتاج إلى نصر مؤكد فيها، وعلى أن يُعزّز هذا النصر من مكانه اليمين ونتنياهو يضمن بقاء الحكومة وبقاءه في موقعه المهدّد في حال خروجه من الحكومة بالذهاب إلى السجن. وهذا ما رفع من منسوب عدم الانسجام بينه وبين الرئيس الأميركي. والمقاومة من جانبها كانت قد كسرت حاجز الخوف والقول إن هذا العدو لا يمكن قهره وأثبتت هشاشته وتفاهته، وبالتالي فلا يمكن للمقاومة أن تقبل بطرق الوساطة القديمة خاصة مع حجم التضحيات المقدمة.
الأسبوع الماضي عرضت على طرفي الحرب ورقة قطرية مصرية لم تجد قبولاً من الطرفين. الأمر الذي استدعى من ويليام بيرنز مدير وكالة الاستخبارات الأميركية أن يزور المنطقة، حيث تفيد الأخبار أنه قام بإعداد ورقة جديدة اعتبرها تعديلات على الورقة القطرية – المصرية. وفور عرضها أبلغت حماس الوسطاء بقبول المقاومة المبادرة، الأمر الذي قلب الطاولة من جديد في تل ابيب، واطلق إشارة الانطلاق للدخول في مرحلة جديدة من الحرب خاصة مع عدم قدرة (الاسرائيلي) لا على قبولها ولا على رفضها، فقبولها يعني سقوط الحكومة لمعارضة أقصى اليمين لها، وهو الضامن البرلماني لبقاء الحكومة، أما رفضها فيعني أن الأسرى لن يعودوا إلى بيوتهم وأن أهاليهم والمطالبين بعودتهم سيملؤون شوارع تل ابيب وغيرها من أماكن التجمعات الاستيطانية تظاهراً وضجيجاً مما سيؤدي في نهاية الأمر أيضاً الى سقوط الحكومة.
لم يتأخر الردّ الاسرائيلي كثيراً عن رد المقاومة، ولكنه أخذ شكلاً آخر خلال الساعات بتصعيد الهجوم على رفح الأمر الذي أدى الى استشهاد بضع و50 شهيداً مدنياً وجرح قرابة 700 خلال ساعات قليلة مع تهديم في المباني وقطع الأشجار من محيط المدينة المحاصرة، والتي طلب الاحتلال من سكانها ومن اللاجئين إليها بمغادرتها تحت النار. كذلك لم يتأخر إعلان الموقف الأميركي وعلى لسان الرئيس بايدن أول أمس الثلاثاء والذي اكد فيه التزام بلاده بدعم الاحتلال وأن أي خلافات بين إدارته والحكومة في تل ابيب لن تطال من العلاقة العضوية والاستراتيجية بين الدولتين. واعتبر أن الشعب اليهودي قد تعرض لمحرقتين الأولى على يد المانيا الهتلرية والثانية في السابع من تشرين الأول الماضي، ولم يتذكّر المئة ألف ضحية من الفلسطينيين.
كانت الخطوة الثانية في احتلال معبر رفع الحدودي مع مصر وإغلاقه ورفع العلم (الإسرائيلي) عليه، الأمر الذي يعني أن الحدود قد أصبحت مباشرة ما بين «إسرائيل» ومصر وقيل في الأخبار إن المعبر سيبقى مغلقاً ولا يعرف أحد الى متى، فيما يتم تداول أفكار حول تسليم إدارته إلى شركة أمنية مدنية مسلحة أميركية في الغالب ستكون المتحكم في حال فتح المعبر بمن يدخل إلى غزة ومن يخرج منها. أما في حال بقي المعبر مغلقاً، وهذا احتمال كبير خاصة أن حديثاً يدور حول إنشاء ميناء يربط بين غزة وقبرص بإشراف أميركيّ وتمويل خليجي، فهذا يعني بأن مصر فقدت آخر أوراقها الفلسطينية، ويعني أيضاً أن ما بين ثلاثمئة الى اربعمئة من الفلسطينيين الذين غادروا قطاع غزة اثناء الحرب عبر شركات السياحة والوساطة لن يعودوا إلى بلادهم في حال بقي المعبر مغلقاً ومثلهم أهالي غزة العاملون في الخارج، ويعني أيضاً وهذا الأهم أن غزة بكاملها قد أصبحت محتلة كما حصل إثر حرب حزيران 1967.
للمقاومة حساباتها وهي مَن يملك تقرير ما يجوز وما لا يجوز، فهي وأهل غزة مَن يدهم في النار، وبالتالي فهم الأكثر قدرة وأحقية على اتخاذ القرار الصائب والذي كانت المقاومة ولا بد تدرك أنه لن يفضي الى وقف إطلاق نار بقدر ما سيؤدي الى تسعير نار الخلاف الداخلي (الإسرائيلي – الإسرائيلي) من جانب، ونار الخلاف ما بين الإدارة الأميركية وحكومة اليمين في تل أبيب من جانب آخر، كما أنه ينزع عن المقاومة تهمة أنها مَن يعمل على إطالة أمد الحرب من جانب ثالث، ويتسبّب في قتل الأبرياء. وهي التهمة الموجهة للمقاومة بشكل مشترك من «إسرائيل» والغرب وعرب الغرب.
احتلال غزة بالكامل لا يعني نهاية المقاومة وإنما يعني الدخول في مسيرة جديدة طويلة جداً ويجب القول إنها ستكون دامية، مكلفة، مقاومة لا رحمة فيها ومساوية تماماً لمقدار العنف (الإسرائيلي)، رجالها وفتيانها هم من أصحاب البيوت المدمّرة والأرزاق المقطوعة، ومن الأيتام الذين فقدوا ذويهم، ومن الأطفال الذين تحطّمت ألعابهم وأحلامهم، ومن الطلاب الذين احترقت دفاترهم وهدمت مدارسهم. هؤلاء هم مَن حملوا الجرح ومَن سيحملون لواء المقاومة وهم مَن أصبحوا على يقين ان الجميع مطلوب للقتل بتهمة أنهم فلسطينيون.
*سياسي فلسطيني مقيم في الكفير – جنين – فلسطين المحتلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى