أولى

أميركا: نعم لـ «إسرائيل»… حتى ما بعد رفح

‭}‬ د. رضا الشّاب
ماذا تعني «إسرائيل» للولايات المتحدة الأميركية؟ هل هي طفل مدلّل لسيّد أبيض؟ أم قلنسوة توراتية تَأمُر وتنهى بعصا غليطة يُلوّح بها اللوبي الاقتصادي والسياسي أمام الساسة المخالفين في بلاد العالم الجديد؟ لطالما تشابكت علامات الاستفهام تلك في صالونات الترف النخبوي في أوطاننا بحثاً عن طيف أجوبة لا طائل منها سوى في جولات تبرير انهزامنا المشرّف أمام الأصيل دون الوكيل، قبل أن تختفي ثقافة الأسئلة عند حقيقة جيوسياسية مفادها: أنّ الولايات المتحدة الأميركية تسيّدت العالم لعقود بامتهانها حرفة الإشغال الأمني والعسكري لكبريات دوله، بمنغصات أصابت قلب القلب في ساحات العمق الاستراتيجي لها.
فها هي تايوان الإبنة المنشقة عن الصين الأمّ يُعاد استنساخها مراراً وتكراراً في مراكز تصدير الدبلوماسية في واشنطن، لتقضّ مضاجع التنين عند كلّ مفترق سياسي بأوراق نقدية خضراء من فئة المليارات، صُرفت ممهورة باتفاق جَسَّرَ خلافات الحزبين الديمقراطي والجمهوري في موسم الانتخابات الرئاسية. وبالأمس تحركت أوكرانيا سياسياً بوجه روسيا متكئة على براميل البارود الأميركي ودولاراته لتُخرج الدّب من سباته العسكري دفاعاً عن حديقته الخلفية، وتستجلبه على حين شتاء إلى «حرب السنوات» في معارك الخاسر الأكبر فيها دولٌ كبيرة متحدة في قارة عجوز. وأما «إسرائيل» فقد استولدها راسمو خرائط «سايكس ـ بيكو» فوق أرض فلسطين من رحم أسطورة توراتية بقوة «السلاح العلماني» الأوروبي بداية، ليحوّلها الأميركي في ما بعد إلى مشروع رابح ـ رابح يُعيد هيكلة أبجدية الخراب العربي والإسلامي في المتوسط. وعلى ما ذكر، فإنّ الكيان المحتلّ كان ولا يزال يُشكّل حاجة لأبناء العم سام لديمومة السيطرة على هذا الجزء من غرب آسيا والقرن الأفريقي، وهو القائم سداً فاصلاً بين المشرق والمغرب، وعنصراً لاغياً «لاستقلال» أي قطر عربي بدوله الغنية بمواردها النفطية والمائية، فضلاً عن طبيعة موقعه الجغرافي كهمزة وصل بين قارات العالم القديم.
نعم، إنّ «إسرائيل» شرطي برتبة: «أمرك أيها الأميركي»، لهذا لن تتخلى الإدارة عنه متى ما أدى دوره، بل تهبّ لإقالته من عثرته بالسلاح والمليارات. ولا يملك الكيان الغاصب لفلسطين في معركة الحفاظ على الدور خياراً سوى الانتصار في حرب إرعاب دول المنطقة، تحت مسمّيات الردع، أو حتى ترميم الردع وهو مصطلح أفرزته واقعة طوفان السابع من تشرين الأول، بعدما كسرت مقاومة لبنان «أسطورة لجيش لا يُقهر» في ذات تموز.
ردعٌ وظّفَ هذا الكيان المتوحش لأجله خطط إبادة ممنهجة لغزة بشعبها: مَن رفع للاستسلام راية قُتل ومَن يدافع عن الأرض والمقدسات يُقتل حتى الإفناء الكامل لأنفاسٍ منها يتشكل هواء فلسطين الشهادة، ولكن غزة صمدت بمقاومتها ومساندة جبهات لبنان والعراق فاليمن وسورية وإيران، وأخذت «درة تاج» المحور المستعصية على الموت تنتشر كالنسيم لتحتلّ عدالة قضيتها مساحة ممتازة من اهتمام العالم أجمع.
عالمٌ جابته التظاهرات المطالبة بوقف الإبادة، من دون أن يتحوّل الغضب الشعبي إلى فعل سياسي عند حكومات الغرب المتوحش، ولو أنّ التظاهرات الطلابية الأخيرة في عشرات الجامعات الأميركية والأوروبية أطلقت الفعل الأكاديمي والإعلامي من غمده في خطوة يُبنى عليها في المستقبل. أما في الجغرافيا العربية، فصحيح أنّ هناك رصيداً شعبياً وإسلاميّاً تكسبه الدولة التي تدعم الحق الفلسطيني بقوة السيف، لكن الثمن لذلك الدخول في الصراع باهظ، وهو ما دفع تلك الدول بعيداً في الترحال عن غزة، إلا من مساعدات إنسانية على شكل أكياس طحين وأكفان تلقى من السماء على رؤوس منتظريها.
أكثر من مئتي يوم على الحرب الصهيو أميركية ودم الشهيد تلو الشهيد يُسقط وهم «ترميم الردع» ومعه كلّ أمل بمنجز، يعيد رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو إلى الحياة السياسية بعد توقف المدفع، ويعيد المستوطنين إلى مناطق غلاف غزة في الجنوب وغلاف الجليل في الشمال المرتعب والمرتدع من لبنان.
وعلى قاعدة حرب اللاخيار: إما نصرٌ أو انتصار، لا مناص أمام نتنياهو، الخال الوفاض إلا من دماء أطفال غزة ونسائها، من دخول رفح بدعم من الإدارة الأميركية المنافقة في مسعى لإطالة الحرب، أملاً في تسلق سلّم إنجازات يرمم ثقة المستوطنين بجيشهم. مستوطنون باتوا يرقبون نهاية كيانهم، فبحسب صحيفة تلغراف البريطانية يخشى «الإسرائيليون» هذه الأيام «هرمجدون» أو معركة نهاية العالم في الفكر التوراتي، حيث ستقع في جنين شمال الضفة الغربية، وستسيل فيها دماء كثيرة ويُباد فيها غالبية اليهود، خصوصاً بعد ارتفاع مؤشرات الحرب المفتوحة مع قوة الرضوان.
فالعدو الذي يبدو أنه لم يستوعب ميدانياً حتى الآن انتقال إيران من الصبر إلى الردع بضربة استراتيجية هزت أركانه، أنهى، بحسب المعلن، خطط اجتياح رفح «لاستعادة أسراه والقضاء على قادة وكتائب حماس»، في وقت تتواصل عمليات تدعيم محور نتساريم بثلاث قواعد عسكرية إسرائيلية ولواءين لفصل شمال القطاع عن وسطه وجنوبه، وهو ما يأتي ضمن مخطط الاحتلال لتقسيم غزة ومنع عمليات التسلل المحتملة باتجاه محافظات الشمال، ومن ثم التحكم بحركة المدنيين، كما يحدث في الضفة الغربية.
وفيما تحاول الإدارة الأميركية إكساب «إسرائيل» صورة انتصار على حماس من دون انزلاقها في وحول حرب متحركة مع لبنان وإيران، حذرت صحيفة «وول ستريت جورنال» من تصعيد خطير في الشرق الأوسط بين حزب الله و»إسرائيل» على وقع طبول الحرب على رفح، والانفلات التدريجي للجبهة الشمالية من قواعد الإشتباك.
وبينما يتلو الرئيس الأميركي جو بايدن تراتيل دعمه المطلق لـ «إسرائيل» وحمايتها من أعدائها مع كلّ مناسبة، تؤكد المقاومة الفلسطينية أنّ ألوية نخبة الجيش «الإسرائيلي» المنهكة، في ما لو قرّرت اجتياح جنوبي القطاع، ستواجه مقاومة أسطورية من مقاتلين لم يبتلعهم البحر، وأناس يقيم الأحياء منهم فوق قبور الشهداء ولا يرحلون، لتكتب غزة المحاصرة، المدمّرة، المضرجة بدماء أبنائها وأبطالها، المجوّعة، العطشى، ومعها جبهة المساندة، فصلاً جديداً من تاريخ النصر المجيد المضاد للتاريخ الآخذ إلى التيه في صحراء الاستسلام والانهزام أمام العدو «الإسرائيلي».

*أستاذ في الجامعة اللبنانية وكاتب سياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى